جلـس على حافة السرير. فرك عينيهِ بكفيهِ. غرسَ أصابعَهُ العشرةَ في رأسه وحكَه. فرك شعرَه ومشطه.. توقفَ ثم وَقَفَ!
في الممرِ المؤدي إلى صالةِ الجلوس شاهدَ الصبيَ داخلَ الحمامِ ونصفُ وجهِهِ مغطىً بالمعجونِ، والفرشاةُ داخلَ فمِهِ. وعلى يسار الممر كانت ابنَتُهُ منهمكةً داخلَ غرفتِها، في إدخالِ قدمِها اليُسْرَى في "فردةِ" الحذاءِ اليُمنى وحقيبةُ المدرسةِ إلى جانِبها.. تغصُ بما تحملُ.. ابتسم.
دخل المطبخِ. كانت زوجتُهُ واقفة.. لامستْ شَفَتاه شفتيْها: كانتا باردتين، ولم يشعرْ بنسيم نَفَسِها الدافئ يعطرُ شفتيهِ. هز كتفيها، فلم تستجبْ.. صرخَ!
تذكرَ واجهةَ محلِ أزياءٍ وقفَ أمامها ذات يوم يدققُ النظر في دميةٍ على شكلِ رجل. كانت معروضةً وسطَ دمى فتياتٍ رشيقات.. جميلاتٍ. دقق النظرَ في الدميةِ.. لمح شعرةً في رمش العين تتحركُ. فرك عينيه وأعاد النظر، فرأى ابتسامةً صغيرة على شفتي الرجل.. ابتسمَ ثم انصرفَ.
قبلَها مرةً ثانيةً؛ فلم تستجبْ. رجعَ إلى الممرِ.. كانت الفرشاةُ ما تزالُ داخلَ فمِ الصبيِّ ورغوةُ المعجونِ تغطى نصفَ وجهِهِ، وكان نصفُ قدمِ البنتِ اليسرى فقط داخلَ فردةِ الحذاءِ اليمنى.
وإلى الخارجِ ركض يستغيثُ! صرخَ عندما شاهدَ رجلاً اعتاد التَرَيُّضَ في الشارعِ في مثلِ ذلك الوقتِ من اليومِ ورجلُهُ اليسرى معلقةٌ في الهواءِ ولا يتحرك. وصرخ أكثرَ حين شاهد كلباً رفع رجلَهُ اليسرى يقضي حاجتَهُ.. حاجةً امتدت كالحبل بينَهُ ومنتصفِ المسافةِ إلى صخرةٍ قرر استهدافَها عندما ألحتْ عليه مثانته! والى جوارِهِ جلستْ أنثاه تبتسم!
بلغ الشارعَ المزدحمَ عادة بالناسِ والسيارات. غصَ حلقُهُ بصرختِهِ.. خذلَهُ لسانُهُ، وارتعشت شفتاهُ.. لا أرجل البشر تتحرك ولا دواليب الآلات تدور.
بدت ملامحُ الوجوهِ على الرغم من طبيعيةِ حركاتِ الأجسادِ أقربَ إلى التماثيلِ منها إلى البشرِ. فحتى الموتُ، حين يغافل الإنسانَ على حين غرة، ينتزعُ الروحَ لكنه يتركُ على وجهِ ضحيتِهِ بعضاً من فرحٍ. أما تلك الوجوهُ فكانت جامدةً.. لا تقول شيئاً، وكانت صامتة!
في زاوية الشارعِ وَقَفَتْ. ظنَّ حالَها كحالِهم أو ميتةً، لكنها كانت تنظرُ إليهِ وتبتسم. التفتَ إلى الخلف فلربما كانت تبتسمُ لأحدٍ غيرِهِ قبلَ أن تتجمدَ أو تموتَ، فلم يشاهد أحداً. رفعتْ يدَها اليمنى وأشارتْ إليه أن يقتربَ: هو اقتربَ، وهي ابتعدتْ. اقتربَ أكثرَ.. ابتعدتْ أكثرَ إلى أن اختفتْ!
ظهرتْ له ثانية، في مكانٍ آخر، كانت واقفةً وكانت تبتسم. رفعتْ يدَها مرةً وأشارتْ إليهِ أن يقتربَ. فركَ عينَه اليسرى بظاهرِ يدِهِ اليسرى: اقتربَ. ابتعدتْ. توقفَ.. أدارَ ظهرَهُ ورجعَ من حيثُ أتى.
على صوتِ زوجتِهِ وهي تحثُ الصبي والبنت على ارتداءِ ملابسِهِما والإسراعِ لتناول الإفطارِ قبل أن يطلق سائقُ حافلةِ المدرسةِ بوقَ المركبةِ استيقظ من النومِ. جلس على حافةِ السريرِ.. فرك عينيهِ براحتي يديهِ.. مشطَ شعرَهُ بأصابعِهِ، وابتسم!
وفي الصالةِ قبّل زوجتَهُ: كانت شفتاها رطبتينِ ورائحةُ نَفَسِها زكيةً. فتحتْ جفنيها.. رفعتْ رمشيها وفي عينيها شاهدَ قوسَ قزح!
|