عبدالرزاق الربيعي
مونودراما في فصل واحد
( رجل في أواخر الأربعينيات , يقيم في قبو ضيق, الإضاءة خافتة , رف من الكتب خلفه, أدوات طبخ , سجادة للصلاة , مرآة صغيرة , مذياع , ينام بوضع أشبه بوضع الطفل في رحم أمه , ينهض من نومه اثر ضربات يسمعها من الأعلى )
صوت الأم :جواد ..جواد..انهض ..انهض ..هل مازلت نائما؟
جواد : لا ياامي , هل من شيء جديد ؟
صوت الأم : نعم يا ولدي , هل سمعت الأخبار ؟ المحتلون دخلوا المدينة , والكابوس سينتهي
جواد : دخلوا المدينة ؟ إذن سنستبدل كابوسا بكابوس ؟
صوت الأم : افرح يا بني , ستخرج للحياة من جديد
جواد : وهل بقيت حياة تستحق أن تعاش بعد كل هذه السنوات ؟
صوت الأم :نعم بقي الكثير , بقي الكثير , بقيت أنا وإخوانك وأخواتك واهلك وبلدك
جواد : بلدي الذي خرج من ظلام ليدخل في ظلام
صوت الأم : افرح يا بني افرح , لقد حان الوقت لعودتك للحياة والناس والشوارع والشموس
جواد : تأكدي أولا من الخبر , لااريد أن أغامر بحياتي بعد كل تلك السنين الطوال التي أمضيتها في هذه الدائرة هل الوضع آمن فوق ؟
صوت الأم : نعم يا ولدي والا لما تكلمت معك
جواد :هل أغلقت الأبواب والشبابيك جيدا ؟
صوت الأم : نعم , فالمخبرون منتشرون في كل مكان من القرية
جواد :عن أي شيء يبحثون ؟
صوت الأم: عن كل شيء , لكنهم كانوا في حالة ذعر , ولم يسألوني عنك هذه المرة
جواد : وهل تعتقدين أنهم في حال يمكنهم من السؤال عني ؟
صوت الأم: لم لا ؟ لقد سالوا عنك قبل أسبوعين من بدء الحرب
جواد :وماذا يريدون مني بعد كل هذه السنوات ؟
صوت الأم: أسئلة روتينية اعتدنا على سماعها
جواد :وماذا قلت لهم ؟
صوت الأم: كالعادة , انك خرجت منذ عام 1981 ولم تعد
جواد :لقد سقطت حكومات , وتغير وجه العالم , وتفتت الاتحاد السوفيتي , وصارت أمريكا سيدة العالم , وهم لم يتغيروا أبدا ؟
صوت الأم: ستنتهي الحرب , وسينتهي كل شيء معها, وسيعود صديقك نزار من الخارج , ستواصلان أحاديثكما فوق السطح إلى الصباح
جواد : هل حقا ستعود تلك الأيام ؟ كم أنا مشتاق إليها !!كم أنا مشتاق لجلسة مسائية صيفية واحدة على السطح
صوت الأم : سيعود كل شيء , سيعود كل المهاجرين , وستخرج من الحفرة بمجرد انتهاء الحرب وزوال الكابوس الذي أشعلها
جواد :بمناسبة الحرب , البطاريات في مذياعي أصبحت ضعيفة , إذا تمكنت حاولي إنزال بطاريات ولو نصف عمر , لا أظن أنني سأمكث طويلا
صوت الأم: حاضر , إن شاء الله تنفرج , وتعود إلينا من جديد
جواد :إن شاء الله , وهل يوجد قتال في الشوارع ؟
صوت الأم: لا ,فالمدينة تسقط بدون مقاومة
جواد :وهل تقاتل الشاة من اجل السكين التي في يد جلادها؟
صوت الأم : انظر للأعلى هذا الرغيف هو فطورك وقد دهنته بالزبدة والسكر ومعه دلو الماء
جواد : شكرا يا أمي أبقاك الله لي ( تنزل سلة الطعام )
صوت الأم : هل وصلت السلة ؟
جواد : نعم وصلت , شكرا , شكرا
صوت الأم: هناك من يطرق الباب سأذهب لأرى من يكون , وداعا, خل بالك من نفسك
جواد :اطمئني يا أماه , لا تخافي علي َمن حوادث المرور , وأصدقاء السوء , فانا في الحفظ والصون مادمت أتنفس وسط الدائرة ( للجمهور ) نعم منذ أكثر من عشرين سنة وأنا في هذه الدائرة الضيقة , أترقب لحظة الخلاص , دخلته شابا يافعا , وها أنا شيخ متهدم , يحلم برؤية الشمس , والسير تحتها لنصف ظهيرة , بل لربع ظهيرة , ساعة من ظهيرة شتائية وسط لسعات البرد , الله !!! الشمس , لا احد يشعر بوجودك إلا في الأيام الغائمة , حيث يتكثف حضورك في الغياب , مثل الله , اذكر إنني رأيت في أيامي المشمسة فلما ً لـ (باز وليني ), اذكر جيدا صورة ذلك الشاب الفقير الذي طلب من حفار القبور أن يدفنه , عندما تحين ساعته , في ارض تسقط عليها أشعة الشمس , آنذاك يعتقد انه سيحقق سلامه الكامل , وها أنا أعيش نصف عمري بعيدا عن حنانها , محروما من اشراقتها , هنا في هذه الدائرة حيث يتعفن الهواء , والماضي , والذكريات , والخوف , والأمل , أمضيت نصف عمري , كل شيء بدا يزول ويتلاشى شيئا فشيئا ,تساوى الليل والنهار , الحياة والموت , الطعام ومخلفات الإنسان , أصبح الصوت البشري –سوى صوت أمي – يرعبني, الشمس نسيت شكلها ,البرد نسيته , لانهار ولا فصول , لا أطفال , كم أحب مشهد خروج الأطفال للمدارس في الصباح , ووقوفهم في الطوابير
( يغني ) :
لاحت رؤوس الحراب تلمع فوق الروابي
هاكم وفود الشباب هيا فتوة للجهاد
هيا هيا هيا هي هيا فتوة للجهاد
الإضاءة ضيقة هنا , لا أريدها أن تكون أفضل من هذا , والا انقطع عني الهواء
منذ عشرين سنة والدائرة تلتف على عنقي , مثل حبل المشنقة الذي هربت منه إلى الدائرة , الطفل الذي رايته آخر مرة صار رجلا يحمل على صدره طفلا من صلبه , وأنا هنا في هذا القبو أتابع حركة الأرض وهي تدور ببطء شديد على دائرتي التي حفرتها بيدي َ هاتين , كنت حينها اشعر كأني حفار قبور يحفر لنفسه زاوية يدفن بها جثته , لتكون آخر عمل يقوم به , دون مقابل , انه يرتبها وفق مزاجه الشخصي , هنا مكان الرأس , راسي , وهناك تسترخي القدمان المتعبتان , قدماي , وحينما يصادف أثناء حفره دودة , يحملها بإشفاق ويناديها : يا دودتي , سأقدم لك جثتي وجبة طازجة , صحيح إنها ليست دسمة , لكنها تكفيك , أنت ِ وعشيرتك ِ لسنين طويلة , فابقي هنا لازمي المكان جيدا , عما قريب ستذبل الروح وتسمنين من لحم هذا الجسد , ليس أنت ِ فحسب , بل سيسمن الظلام , ستسمن عناصر الأرض , سيسمن الموت أيضا , لكني لن اسلم نفسي له بسهولة , لن اسلم نفسي للموت ولا لحفار القبور ولا لحبل المشنقة ,سأظل احتفظ بنَفَسي , شهيقا وزفيرا , لن أكلف العالم سوى الشهيق والزفير , لن أكلف الشمس شيئا , ولن يطأ قدمي الأرض مثلما يفعل البشر العاقون , كيف يسحقون جسد أمهم الأرض ؟ أنا أنام في رحمها مثل جنين يسترخي في رحم أمه , لا لا يجب أن نغير هذه العلاقة , حتى لو سقط الطاغية وعادت الأمور إلى نصابها , يجب ألا أدوس جسد الأرض بقدمي , يجب أن أصافحها بيدي عندما أسير , إذن علينا أن نسير بالمقلوب , هكذا , نعم هكذا ينبغي أن نعامل أمنا الأرض بكل شفافية , واحترام , إنها تشعر بنا مثل الأشجار , وتحس بالمهانة التي تتلقاها من جراء سير الإقدام , لكنها تسامحنا , وتغفر لنا زلاتنا , تتحاور معنا , وحدهم الطغاة لا يمكن لهم الحوار مع الشعوب , عندما القوا القبض على عمي , وفلت نزار من قبضتهم , وكنا قد اتفقنا نحن الثلاثة على الهروب من الحدود , بمساعدة مهرب كردي , فوشى احد كتبة التقارير بنا , هرب نزار إلى الخارج وقع عمي في قبضتهم قلت: إن الدور سيصلني حتما , سيسالون :مع من كانا يريدان السفر ؟ سيجيبون ؟ مع جواد , سيسالون : أين جواد ؟ كان علي َ أن أفكر بطريقة تبقيني على وجه الأرض , تبقي هذا النَفَس يصعد ويهبط , ولم أجد سوى أن اشق لنفسي حفرة داخل الأرض , كيف ؟ سألتني أمي , قلت لها : على الإنسان ألا يسلم رقبته لمشنقة مصابة بجنون المشانق , ستقول : جنون المشانق ؟ نعم جنون المشانق , , وتصاب بهذا النوع من الجنون المشنقة إذا التفت على عنق بريئة , ومشانق الطاغية كلها مصابة بهذا المرض الخطير , وعليه يجب أن أجنبها عنقي التي لا املك سواها , لم تفهم أمي كلامي لكنها رأت إصرار الحياة في عيني َ , بحثنا عن مكان مناسب لم نجد سوى أرضية المطبخ لأنها مخفية عن الأنظار أثناء عملية الحفر التي امتدت إلى أكثر من أسبوع , وعندما أنهيت كل شيء كانت جثة عمي قد وقعت فريسة لجنون المشانق , وتعقبوا آثار نزار التي أمحت تماما و بدأوا البحث عن رقبتي , حينها , وضعت كل ما احتاجه لاستمرار تنفسي , أدوات طبخ , مذياع لربطي بحبل سري مع العالم الخارجي , أنا الآن اسمع الأصوات مصحوبة بمؤثرات موسيقية ولاأتخيل أن يتكلم الإنسان دون مؤثرات موسيقية , حتى إنني استنكر أحيانا صوت أمي , لولا موسيقى القلب التي تسبق دفء صوتها , وضعت هذه المرآة لأعد التجاعيد , ومقصا صغيرا لتشذيب شعري ولحيتي , أما عن الحاجة , فقد حفرت هذه الحفرة التي تحت قدمي , وضعت ساعة لمعرفة مواعيد الصلاة واصطحبت معي كتاب الله , وكتبا أخرى ومصباحا , وقليلا من الخوف , هذا كل ما احتاجه للدائرة التي أطبقت علي َالذي كل هذه السنين مثل قبر , سهل على الميت أن يوضع في قبر, لكن من الصعب جدا أن يتنفس تحته , انه الجحيم الأرضي , لكن مادمت قد قررت أن أعاند الموت , علي أن استخدم كل الوسائل المتاحة لمعاندة الموت , خصوصا إذا كان يأتيك على يدي مشنقة مجنونة يقف وراءها جلاد مثل جلادنا الذي ألهب ظهر ارضنابرشقات وسياط عظام ضحايا ه مقوضا بناء الله , أما سمعت ( الإنسان بناء الله , ملعون من هدمه ) , والجلاد هدم التاريخ والآن والغد , هدم المساجد والبيوت والمقابر , هدم الأنهار , والاهوار , والجبال , هدم غابات النخيل والبساتين والأعشاش , هدم الفرحة في الشفاه , علينا ألا نفرط بالحياة أبدا .. والا نستسلم للموت , لأنه يجعلنا نفقد الكثير من الامتيازات التي يحصل عليها الأحياء , الموت اكبر كارثة يمكن أن يواجهها الإنسان , خصوصا إذا كان ما يزال قادرا على العطاء , على الإنسان أن يتمسك بالحياة ويقاوم الموت إلى أن يعطي كل ما عنده للآخرين ...علينا أن نقاوم الموت , والعيش في هذه الدائرة لكل تلك السنوات شكل من أشكال المقاومة , لا ليس هروبا أبدا , لم اهرب من الحياة , إنما هربت ممن يريدون قتل الحياة داخل كينونتي , هربت من الموت المجاني , مدافعا عن كرامة الحياة , أتذكر إنني كنت ذات يوم محبطا , فذهبت إلى عمي - قبل أن يلتف على عنقه حبل الموت- بصحبة نزار , كان عمي يتمتع بحيوية عجيبة , وعندما راني على هذا الحال , قال لي , وكان يزرع في حقل , : هون عليك يابن أخي , انظر إلى هذه النبتة الصغيرة , المنقطعة عن الماء , أتعرف كيف تحصل على الماء ؟ أجبته بالنفي , ضحك , ثم ضرب الأرض بمسحاته , فأخرجها وإذا هي مربوطة بحبل يبلغ سمكه عشرات أضعاف حجم النبتة , وقال : هذا جذر هذه النبتة , وقبل أن تصعقني الدهشة قال : سأريك من أين تحصل على مائها ,سار شاقا الحقل بمسحاته مزيحا التراب عن الجذر الذي امتدت لأكثر من أربعين مترا , حتى وصلنا إلى ساقية صغيرة وقال : تلك النبتة تمد كل هذا الجذر لكي تحصل على غذائها الذي يجعلها تستمر في الحياة , ثم التفت لي وقال : أما زلت محبطا ؟؟ حينها ربت نزار على كتفي وقال لي : علينا لا ننهار أمامهم , فذلك يسرهم , علينا أن نحافظ على تماسكنا , علينا أن نضحك , لكي نغيظهم نضحك , نضحك , هههههههههه
اسمع الآن حركة فوق , علي أن اخفض صوتي , تعودت أن أتكلم مع نفسي لكي لا أنسى صوتي , مثلما تعودت أن احلق ذقني صباح كل جمعة , واغتسل , اقرأ القران الكريم , أقيم فرحي الخاص , فرحي بنجاتي من براثن الموت , لا تتصوروا إنني أخاف الموت , ولست متهالكا على الحياة , لكن لن أفرط بحياتي , ماداموا هم من يريد ذلك , ودائما اردد ما قال جيفارا ( لايهم أن يفاجئنا الموت ..أهلا به , إذا كانت صرختنا ستسمع ) ووجودي هو صرخة ستشق فضاء الديكتاتورية عندما أطلقها بعد اندحارها ونجاتي
هل سمعتم حكاية المراة العجوز مع الحكيم كونفوشيوس ؟ التي رواها لي نزار الذي سيعود , وأنا سأخرج ونجلس على سطح المنزل في ليالي الصيف مواصلين أحاديثنا , لكن من ذا الذي يعيد عمي إلى حقله ؟ من ذا ؟ من ذا ؟ ( يبكي ) آسف , لم ابك منذ زمن بعيد منذ ثلاث سنوات , عندما ماتت شقيقتي بداء عضال , ماتت دون أن أتمكن من رؤيتها , كانت تحتضر فوق , وأنا أعض التراب حزنا , وعندما سمعت الصراخ , كان كل شيء قد انتهى , قبل ذلك بسنوات بكيت على أخي الصغير الذي سقط في الحرب مع إيران , دون أن يعرف لماذا سقط ؟ كانت إذاعة النظام تردد :
احنه مشينه مشينه مشينه للحرب
دون أن يسال احد لماذا مشينا ؟ ولماذا عدنا ؟ ولماذا سقط أخي في شرق البصرة , قالت أمي إن القرص دلهم على أجزائه المبعثرة اثر انفجار لغم فجمعوها في تابوت لف بالعلم العراقي , وقالوا : ابنك شهيد الوطن , وقبل أن ينتهوا من خطابهم الجاهز , سألوا أمي عني , فانفجرت بالبكاء , عند ذلك غادروا العزاء مستائين , لأنهم لم يظفروا بمعلومة يحصلون من ورائها على ترقية , ألا يحق لعجوز كونفوشيوس في القصة التي رواها لي نزار أن تغادر المدينة , لا تظنوا إنني نسيتها , هل انتم متشوقون لسماعها ؟ حسنا ,لا تستعجلوا سأرويها لكم بعد هذا الفاصل ( يضحك يجلس على الحفرة التي تحت قدميه ) زار كونفوشيوس قرية تقع على مشارف غابة ,فوجد امرأة تبكي , سألها :لماذا تبكين ؟
المراة العجوز : لأن الوحش أكل ابني
كونفوشيوس : انه خطب مؤلم جدا , أعانك الله , وهل لديك غيره؟
المراة : كان لي ولد , واكله الوحش أيضا
كونفوشيوس : هذا أمر مؤسف جدا , لابد من الصبر , وهل لديك ولد ثالث ؟
المراة العجوز : نعم , ولكن أكله الوحش هو الآخر
كونفوشيوس : ماذا ؟ أكله الوحش ؟ انك امرأة شقية جدا
المراة العجوز : وهكذا بقيت وحدي بعد رحيل أولادي الثلاثة
كونفوشيوس : ولماذا لم تذهبي إلى المدينة لتتخلصي من شرور الوحش ؟
المراة العجوز : هناك من هو أشر من الوحش
كونفوشيوس : وهل هناك من هو أشر من الوحش الكاسر ؟
المراة العجوز : نعم
كونفوشيوس : وما هو ؟
المراة العجوز : الحاكم الظالم
كونفوشيوس : ماذا تقصدين ؟
المراة العجوز : يوجد في المدينة حاكم ظالم , ومجاورة الوحش أهون من العيش تحت سلطة الحاكم الظالم
حينها التفت كونفوشيوس لطلابه وقال لهم : دونوا هذا عندكم ومجاورة الوحش أهون من العيش تحت سلطة الحاكم الظالم
وأنتم ( للجمهور ) دونوه كذلك , وهكذا فضلت العيش في هذه الدائرة المغلقة على الخروج إلى عالم الحاكم الظالم
( صوت الأم يعود من جديد وبشدة )
صوت الأم : جواد , جواد , رأيت بعيني دبابة أمريكية , والحكومة فص ملح وذاب
جواد : اخفضي صوتك ياامي لكي لا يسمع احد ويشي بنا
صوت الأم : من يشي بنا ؟ لقد انتهوا تماما وجاءت الدبابات
جواد : إذن جاءت الدبابة تنظف أوساخها القديمة
صوت الأم : انظر للأعلى سأنزل السلة وفيها البطاريات لتسمع بنفسك الخبر السعيد
( تنزل السلة )
جواد : شكرا ياامي , أريد أن اسمع خبرا واحدا طالما تمنيت سماعه
صوت الأم : ستسمعه لكن..
جواد : لكن ماذا ؟
صوت الأم : ما زالوا يبحثون عنه, ومع ذلك هدموا تمثاله , ومزقوا صوره , تستطيع الآن أن تخرج
جواد : لا , ياامي لم يحن الوقت بعد
صوت الأم : إذا كنت ترى هذا فلا باس, الاحتياط واجب , علي أن اذهب الآن لكي أتابع الأخبار في الخارج
جواد : احترسي ياامي
صوت الأم : إن شاء الله
( جواد يضع البطاريات في المذياع بخفة , الإذاعات تعلن عن سقوط التمثال )
جواد :إذن الخبر مثلما قالت أمي , يبدو إن الحلم قد تحقق ( يقفز إلى الأعلى راقصا فيصطدم رأسه بالسقف ) آه , دائما هناك سقف , للفرح سقف , للكلمة سقف , للصرخة سقف , للقبر سقف , لذا عندما اخرج , سأنشيء غرفة بلا سقف , نعم بلا سقف , وإذا نزل المطر , سأقول له : تفضل أنت في بيتك , منذ أكثر من عشرين سنة وأنا لم أر قطرة مطر بل لم اسمع صوت تساقطه وضرباته على السقوف , سأغسل وجهي بالمطر , بل سأغتسل كلي بالمطر , نعم سأرفع السقوف ولن اسمح لها بمصادرة امتداداتي مع الطبيعة , الجدران والسقوف تشوه علاقاتنا بالطبيعة , والديكتاتوريات جدران حديدية تحول بيننا والحياة , وهاهي تنهار إلى الأبد فيتحقق حلمنا جميعا , ماذا سأفعل بعد خروجي ؟ هل سأتزوج ؟ وانهض صباحا للعمل ؟ نعم انهض صباحا للعمل مثل كل الرجال الذين يعيشون تحت الشمس , سأعمل وأتزوج , ويصبح لي أولاد , سأعلمهم أن يعيشوا مثلي بدون سقف , وسأحيط بيتي بالأشجار العالية , كم أحب الأشجار , آخر شجرة رايتها قبل أكثر من عشرين سنة , لابد أن أوراق الأشجار أصبحت أكثر خضرة , وأكثر علوا , لكن متى سأخرج ؟سؤال يحتاج إلى مراجعة وقراءة ذاتية عميقة , عليَ إذن أن أجهز أشيائي , ارتب محيط الدائرة , أين علبة أسناني ؟ نعم تذكرت , إنها فوق الرف لقد مضت عشر سنوات على سقوط آخر سن , سمعت في الإذاعة إن سبب تساقط الأسنان هو نقص الكالسيوم , هنا كل شيء ناقص , إلا الحرية ,لذا سقطت الأسنان ولم يسقط حلمي بالحرية , والآن تحقق الحلم , هذه علبة أسناني , أما ذاك فهو الكيس الذي جمعت به شعري الأبيض الذي كنت أشذبه بمقصي , أنا هنا حلاق نفسي , وطباخها , و خادمها وممرضها والاهم من كل هذا سيدها ( يتناهى إلى سمعه خبر عن مسؤول أمريكي يشير إلى احتلال العراق ) ما هذا ؟ ماذا يقول هذا الجنرال ؟ لابد إنها زلة جنرال , من المؤكد إنها زلة جنرال , الجنرالات يزلون كثيرا , وأهونها زلات ألسنتهم , علي أن أواصل عملي متناسيا هذه الزلة غير المقصودة , ( تتكرر العبارة نفسها على لسان آخر ) ماذا حدث ؟ هل كلهم أخطأوا التعبير ؟ أم تواطأوا على الخطأ ؟ الهي ماذا يحدث فوق ؟ هل وقع الوطن في زلة جديدة ؟لم تمر سوى ساعات على ولادة الحلم , لكنه ولد جريحا , لقد صرنا كمن يخرج من حفرة ليقع في حفرة أخرى , لأطرد هذه الأفكار السوداء عني , الحلم مازال رضيعا ويحتاج إلى عناية, علينا ألا نفرط في هذا الحلم أبدا , لقد تعبنا في رسمه ( يسمع أنباء عن فوضى في البلاد وحرق مكتبات وسرقة متاحف وبنوك , والأمريكان يحرسون وزارة النفط ) يا للخيبة !! ما الذي حصل ؟ لماذا يحصل هذا ؟ ولماذا وزارة النفط ؟ عندما كنت في الإعدادية , قال لنا مدرس مادة الجغرافيا , عام 1973 بعد حرب أكتوبر : لدي ثلاث أمنيات , سألناه : ما هي ؟ قال : الأولى : أن تردم قناة السويس , سألناه : والثانية : أجاب : الثانية أن تجف آبار النفط العربي , ازددنا عجبا , قلنا والثالثة ؟ أجاب الثالثة احتفظ بها لنفسي , رفعت إصبعي : وقلت له : لماذا تتمنى جفاف النفط الذي رفلنا بخيراته ؟ ضحك وأجاب : عندما تكبر ستعرف لماذا ؟ والآن عرفت يا مدرس الجغرافيا الذي لم يحضر الدرس التالي في اليوم التالي , سألنا المدير عنه : أجاب : لقد وصلنا تقرير من احد الطلاب عن أفكاره السوداء التي يبثها في الدرس , فذهب لينال جزاءه , واتينا لكم بمدرس جديد أفكاره تتماشى مع المرحلة الراهنة , وجاء المدرس الجديد , الذي كان يكرر لنا بسعادة ( انتم محظوظون , لان بلدنا يطفو على بحيرة من النفط ) صدقناه , ولم نعرف أن بلدنا يطفو على بحيرة من المصائب , هاهو النفط يحرق الأحلام , والبنايات , وسبعة آلاف سنة من الحضارة , هاهو النفط قطعة الجبن الشهية التي تتجمع حولها الجرذان من كل مكان , هاهو النفط يحرق سماءنا وأنهارنا , ويقف سيدا يحرسه الأمريكان
هاهو سوط الطاغية يتلاشى , وينتهي زمنه لكنه أبى إلا أن يترك آخر سيئاته , الغزاة , لقد كنا نعرف انه لن يخرج بسلام , وأين هو السلام ؟ أين هي الحرية ؟والديمقراطية ( نبأ عن اقتحام الأمريكان بيوت العراقيين بحثا عن أعوان النظام والأسلحة )
جواد : ( يضحك ) إنهم يفتشون البيوت هههههههه المهزلة تشهر أنيابها , وليس لنا إلا الضحك ومرادفاته من العويل , انه العويل الذي يسير بالمقلوب , ويريدونني أن أخرج ههههههههه , أخرج لمن ؟ للاشيء الذي بقي بعد ذبول جميع الأشياء ؟ هل للخروج جدوى مثلما كان للاختباء جدوى ؟
لأرى كيف تسير الأمور ؟ وبعد ذلك أقرر , لكن ماذا أقرر ؟
الدبابات التي أوصلته إلى السلطة فأوصلني إلى هذه الدائرة هي نفسها الآن في شوارعنا !!ما الذي تغير إذن ؟هل سأخرج لأعانق شمسا سوداء ؟
صوت الأم :جواد , جواد
جواد : نعم يا أمي
صوت الأم : تأخرت عليك , لأن الجنود الأمريكان بدأوا بتفتيش البيوت
جواد : نعم سمعت الخبر في النشرة , لكن لم أتوقع إنهم يصلون إلى قريتنا بهذه السرعة
صوت الأم : كل شيء يسير بسرعة يا ولدي
جواد : إلا أنا فمنذ عشرين سنة لم أتحرك إلا خطوات
صوت الأم : ستتحرك وتركض أيضا
جواد : لا يا أمي , كيف أفهمك إنني لا اقصد الحركة الميكانيكية , إنها الحركة داخل العمق, داخل الزمن
صوت الأم : الزمن يمر يا ولدي , وخطواتهم تقترب
جواد : ماذا يريدون منا ؟
صوت الأم : إنهم يفتشون كل مكان بحثا عن أعوانه
جواد : ولماذا لا يفتشون عنه ؟
صوت الأم : يقولون إنهم خصصوا جائزة لمن يعثر عليه
جواد : أمي أنت ِ مضطربة ,لماذا هذا الاضطراب ؟
صوت الأم : أخشى اختلاط الأوراق
جواد : ماذا تعنين يا أمي باختلاط الأوراق ؟
صوت الأم : أخشى أن يعثروا عليك ويظنونك منهم
جواد : منهم ؟؟؟
صوت الأم : انه قلق أم ليس أكثر
جواد : يا أمي لقد أمضينا عمرنا في القلق فمتى نرتاح منه ؟
صوت الأم : إنها بداية النهاية يا ولدي , هل جهزت نفسك للخروج؟
جواد : ليس بعد يا أمي , ليس بعد
صوت الأم : ليس بعد ؟ ماذا تعني؟
جواد : يبدو أن الأمور تحت أفضل منها فوق
صوت الأم : هل أنت متردد ؟
جواد : نعم يا أمي
صوت الأم : كيف ؟ هل هذا معقول ؟ تأتيك الحرية وترفسها بقدمك؟
جواد : نعم إنها حرية, لكن داخل قفص
صوت الأم : ستغادر القفص يا ولدي
جواد : لا يا أمي , أنا في قفصي هذا أكثر حرية
صوت الأم : لكن ماذا لو جاء الأمريكان ووجدوك في هذه الحفرة؟
جواد : وماشاني بهم ؟
صوت الأم : سيظنون انك من أعوان النظام
جواد : ليظنوا الذي يظنون , لقد تعبت من الظنون
صوت الأم : دعك من هذا الكلام و اخرج يا جواد ,لقد انتهى كل شيء
جواد : نعم , انتهى كل شيء
صوت الأم : إذن, لماذا لاتخرج ؟
جواد : هل امسكوا به ؟
صوت الأم : لا , لكنهم اسقطوا تمثاله , ومزقوا صوره, ومازالوا يبحثون عن أعوانه
جواد :وأين هو ؟
صوت الأم : يقولون انه تحت الأرض يعيش في مخبأ
جواد : يعيش في مخبأ ؟مثلي ؟
صوت الأم : نعم , لكنك الآن لست مطلوبا لأحد , بينما رأسه مطلوب للملايين
جواد : لكنه تحت الأرض,و الأرض تمنح الإنسان قوة مضاعفة , لأنها رحمه الأول , السرمدي
صوت الأم : وهل تخشى عودته ؟
جواد : لا , إنما أريد أن أغادر دائرتي على عالم جديد
صوت الأم : ها نحن ندخل عالمنا جديدا
جواد : ونزار , هل عاد من منفاه ؟
صوت الأم : لا يا ولدي , لقد اتصل أهله به , قال : سأتريث قليلا
جواد : أغلقي النافذة ياامي , أنا أيضا أريد أن أتريث ,اتركيني هنا أتابع الأخبار من جديد , فانا هنا بحاجة إلى عزلة
صوت الأم : عزلة ؟
جواد : نعم , عزلة
صوت الأم : أما كفتك سنوات العزلة الطويلة ؟
جواد : كانت عزلة مفروضة علي , والآن هي عزلة اختيارية , دعيني اختر الوضع الذي يناسبني, فلقد تعبت تعبت , والأخبار الجديدة زاد تني تعبا , كيف فلت من أيديهم ؟ ولماذا هم باقون ؟ متى يخرج الوطن من دائرته ؟ متى يغادر نزار دائرته ؟ الدوائر تلتف تلتف تلتف على رقابنا ,ماذا جرى ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟
صوت الأم : كل شيء سيعود ابهى مما كان , فقط نريد منك أن تخرج
جواد : ليخرج الجميع , هو من مخبئه , وهم من بلدنا , عندها سأخرج من دائرتي
( ينقطع صوت الأم بعد إطلاق صرخة , أصوات في الأعلى تتحدث بالإنكليزية )
جواد : أمي أمي هل حصل شيء؟
الضابط الأمريكي : what is thear under the ground؟
جواد : who are you ?
الضابط الأمريكي: what are you doing down?
جواد : أنت ماذا تفعل فوق ؟ إنها القذارة نفسها , اتركوني وشاني
صوت الأم : افهموهم , انه ليس من أعوان النظام , انه ضحية من ضحاياه, افهموهم هذا , وأنا سأجعل جواد يخرج ,جواد جواد
جواد : دعيني يا أمي , قلت لك : أنا بحاجة إلى عزلة , لأفهم الذي حصل
صوت الأم : الأمر واضح إنهم جاءوا لمساعدتنا, اخرج يا ولدي اخرج
جواد : لن اخرج حتى يخرج هو من مخبئه ويخرجون
صوت الأم : سيخرج , وسيخرجون , اخرج يا ولدي اخرج
أصوات أخرى : اخرج اخرج يا جواد
( أتربة تسقط من الأعلى – هلاهل –صوت قذائف – صراخ - دخان -ظلام يسدل الستار )