( مسرحية)
عبد الرزاق الربيعي
{ يندفع رجل في الثلاثين يرتدي ملابس بهلوان إلى عمق المسرح ..... يسقط أرضا ً......يسمع صوت إغلاق باب حديدي ......... يتحسس آثار سلاسل في معصميه }
البهلوان :لا يجوز هذا ... لا يجوز ... أيها الشرطي لا يحق لك
حجزي ...توقف لحظة ...لست متشردا ً،لقد نسيت ُ أوراقي في المحطة ... نسيتها فحسب ، لا تتركني هنا أرجوك...هيا أخرجني ... لن أطالبك باعتذار عن جميع ما بدر منك اتجاه شخصي ...أيها الشرطي ...دعني أكلمك...أيها الـ....(يتكلم مع نفسه) والآن كيف سأخرج من هذا المأزق ؟ أخشى أن يتعرفوا عليّ وأعود مخفورا ًإلى " قطار اليأس"....لا..لا..لا يمكن أن يحدث هذا ...لقد تعبت كثيرا ًوعانيت كثيرا ً...يجب أن أعالج الموقف وإلا ضعتُ...ولكن كيف ؟ لقد ألقى بي مثلما يلقي نفاية ومضى ...أيها الشرطي ..أيها الشر....(يلتفت فجأة إلى الجمهور) آسف لم أقصد إزعاجكم ...لقد أتى بي الشرطي من الشارع بدون ذنب ...طلب مني أوراقي ...ومن أين لهزأة مثلي أوراق؟وجذه لي بضعة أسئلة في غرفة الضابط ثم رماني معكم...لابد أنه سيندم ويعود ليخرجني ...أنا على يقين من هذا ...هل تقولون إن صراخي أقلق جدران الزنزانة وقوّض هدأتكم ؟..من حقي أن أحتج على سحبي بهذه الطريقة اللاإنسانية من الشارع إلى هذه الزنزانة الرطبة....ثم أنني لم أركم في البداية ...كنت أتصور أنني في زنزانة انفرادية...وبصراحة كنت أفضل أن أكون وحدي..." فالوحدة أفضل من رفاق السوء" كما تقول الكتب ...آسف...آسف..لم أقصد إهانتكم أبدا ً...لكنها هكذا فلتتْ من لساني...أعرف أن منكم من هو طيب وشريف ومستقيم...لكن من يُفهم الشرطي الذي يدخن خارج زنزانتنا أن في هذا المكان المظلم من هو طيب وشريف ومستقيم ؟ وليكن في علمكم لست مجرما ًولا لصا ً محترفا ً ولا...ولا...إذن لماذا أتوا بي إلى هنا ؟ اسألوهم ...لقد كنت في الساحة العامة أعمل وسط سعادة الناس وضحكهم ..أتـلوى بحركات بهلوانية هكذا ( يرقص ) إش..إش..يبدو أننا أزعجنا إدارة السجن...( بصوت خافت ) وبعد أن قدمت ُ عرضا ً ممتازا ًجمعت ما تساقط من أكفهم اللدنة المعطاءة...وقبل أن أنصرف هجم عليّ شرطي النحس وأتى بي إلى هنا ...مالكم تبحلقون في ثيابي هكذا ؟ إنها ثياب العمل ...لم يتسنّ لي استبدالها ...طلبت منه ذلك ...لكنه أصر على أن امثل أمامكم بكامل أناقتي وهي ثياب ليست رخيصة ...لقد اشتريتها من أرقى محلات الـ...........
لا تتعجلوا ...سأحدثكم عن طبيعة مهنتي....
ماذا تحزرون ؟ بهلوان في سيرك ؟لا..لا...هذه مهنة سابقة...
ممثل في مسرح ؟لا...لا...لستُ على درجة من الوعي لأكون ممثلا ً في مسرح
راقص في ملهى ليلي ؟ أستغفر الله
كفى...كفى... لم تحزروا مهنتي ...أنا سأحدثكم عنها بنفسي ...أنا يا رفاق السجن هزأة ...هزأة ...والله العظيم هزأة....مالكم لا تصدقون ؟ ألم تسمعوا بشخص وُلِد ليكون هزأة ...وكبر ليكون هزأة ؟ أنا هو ...هزأة ابن هزأة ابن ستين هزأة ...
لا تضحكوا هكذا...إدارة السجن تمنع الضحك ...طبعا ً صعب عليكم أن تستوعبوا كيف يصير ضحك الآخرين على المرء وسخريتهم منه مهنة جيدة ومحترمة أيضا ً ...وتدرُّّ ربحا ً محترما ً ...الحمد لله والشكر "مستورة" ...
كأس من الشاي ؟ شكرا ً...الشاي يدفيء المفاصل ...شكرا ًً لكم...بعد رشفتين سأحدثكم عن الأمر منذ البداية ...( يشرب ) في مدننا الطينية الفقيرة الغافية على ضفاف الرافدين قبل سنوات بعيدة ... لكي ينجو الإنسان من أمراض الطفولة يمنحه الأهل إسما ً وضيعا ً ...ليدرأوا عنه الحسد ...بالنسبة لي منحتني أمي وأنا ألبط في بطنها قَدَرا ً وضيعا ً
( يطفأ الضوء ، تسلط بقعة ضوء على الأم )
الأم : نذر عليّ لأبي عبد الله إذا كان حملي ولدا ً أجعله هزأة
للناس في أيام عاشوراء
البهلوان(يواصل): وهو نذر اعتادت النسوة على قضائه في الأيام
العشرة الأولى من محرم من كل عام عند استذكار مقتل سيد شباب أهل الجنة وعياله الذين سقطوا في واقعة الطف في كربلاء أيام خلافة يزيد بن معاوية.....حيث اعتاد أهل مدينتي سفح الدموع والعويل ولطم الصدور...ووسط هذا الاحتفال الجنائزي كان لابد أن تشرق ابتسامة،هذه الابتسامة ينشرها في الدروب شاب نذرته أمه أن يمثل دور القاتل... ذاك الذي كان يردد في خيمته قبل توجهه لقتال الحسين :
فو الله لا ادري وإني لحائر
أفكر في أمري على خطرين ِ
أأترك ملك الري والري منيتي
أم أرجع مأثوما ً بقتل حسين ِ
وفي قتله النار التي ليس دونها
حجاب ٌولي في الري قرة عيني
وتوجه لمعسكره وقتله ...وكنوع من التنفيس عن مشاعر الغضب والازدراء تجاهه اعتاد هذا المنذور أن يمثل دور القاتل بشكل مزر ٍإذ يرتدي ثياباً مزركشة تثير الضحك والسخرية يدور في الشوارع راقصا ً مؤدّيا ً حركات بهلوانية وسط سخرية الناس الذين يتجمهرون حوله وهو يرقص ( يرقص بحركاته البهلوانية........أصوات من خارج الزنزانة )
خفضوا الصوت ... إننا نثير أعصاب إدارة السجن ...كان عليهم ألا يصطحبوا بهلوانا ًفي المرة القادمة...طبعا ً الأولاد المحظوظون تنذرهم أمهاتهم أن يمثلوا أدوار " أولاد مسلم " حيث يسرون وسط إشفاق الناس يرددون :
" إحنه أولاد مسلم والدهر خان
فكنا من السجن بالله يا سجان "
لماذا لم امثل هذا الدور ؟ عرفت فيما بعد أن أمي نذرت أخا ً لي أن يكون من "أولاد مسلم" لكنه توفي قبل الفطام ...لذا نذرتني أن أكون هزأة....
الحقيقة كنت أحب أن أمثل دور ولدٍ من ولدي مسلم بن عقيل ...كنت أحب ثيابهم الخضراء النظيفة وغطاء الرأس ..وكم طلبت من أمي ذلك لكنها كانت تقول لي:
(ظلام ...بقعة ضوء على الأم )
الأم : لا تتعجل يا ولدي ...لقد نذرتك لدور ٍآخر
البهلوان(يواصل): كنت أحب أن أمثل دور "العباس" أو "حبيب بن مظاهر الأسدي" وظل الأمر لغزا ً...وذات يوم ...عادت أمي من السوق ومعها ثياب حمر ذات شرائط ملّونة ...طلبت مني خلع ثيابي... ألبستني الثياب الجديدة... وضعت الطربوش على رأسي وقالت :
( ظلام...ضوء على الأم )
الأم : يا ولدي نذرتك لهذا اليوم...أخرج إلى الشارع...وأرقص حتى يضحك الناس فإذا ضربك أحدهم على جنبك الأيمن أدر له الأيسر ...وإذا بصق عليك أحدهم امسحها وقبّل يده... وإذا رماك أحدهم بحجارة أطلب منه أن يضربك بأخرى وإذا شتمك ابتسم في وجهه ...وإياك...إياك أن تقابل الإساءة بالإساءة ، إياك..إياك أن تغضب أو تمنع الناس من احتقارك...إياك أن تحتج وأن ترفض طلبا ً وتثأر لكرامتك...لأنني نذرتك أن تكون هزأة.... عسى الله أن يحفظك من كل مكروه ومن شر حاسد ٍإذا حسد....آمين رب العالمين ( يطفأ الضوء )
البهلوان(يواصل): صراحة..في البداية ظننت الأمر مزاحا ً...وفي الحقيقة أعجبني "الطربوش" والثياب وما أن انتهت أمي من خطبتها التي تلتها على مسمعي بجلال حتى أخذتني من يدي خارجا ً، وحملت طبلا ً في يدها الأخرى وصاحت في الشوارع
( ظلام ...ضوء ....الأم )
الأم : يا ناس يا ناس الحاضر يعلم الغائب ...ها أني أفي بنذري لوجه الله ، فهذا ولدي جعلته هزأة...آمين رب العالمين
(ظلام ...ضوء ...البهلوان )
البهلوان(يواصل): ثم نقرتْ على الطبل وطلبت مني أن أرقص ...ترددتُ...استغفرت ربها ..واحمرّت عيناها...طلبت مني أن أرقص ..بقيت ُساكنا ...متحرجا ً من نظرات الصبيان...لطمت أمي خدها ...نقرت بشدة على الطبل ...عندها حركت ُ ساقي قليلا ً..قليلا ً...انهار شيء في داخلي..حركت جسدي ...شعرت بخفة..نقرت أمي بشدة على الطبل...طرتُ في السحاب ...رقصتُ ...رقصتُ...( يرقص ) إش...إش...خففوا الصوت ...قليلا ً...أعطني جرعة ماء ...شكرا ً..لاشيء يخيفني بعد هذه اللحظات ..غدا ً في الصباح يدققون في ملامحي ويعيدونني لقطار اليأس...إذن لأواصل شرح قصتي ...كنت أرقص والناس تسخر ...أرقص والناس تضحك..أرقص والناس تصفق ...أرقص...أرقص ...أرقص أشدّ ما كان يزعجني تجمهر الأطفال من حولي ...كانوا غالبا ً ما يجرون ثيابي وينشدون:
" دول الدولات يا زين....دول الدولات يا زين...
كعب القندره يا زين....دول الدولات يا زين... " وأنا أرقص ... يشتمونني وأنا أرقص ...وصايا أمي تدور في رأسي :
صوت الأم : إياك أن تغضب للشتيمة ... الغضب يزعج الأولياء الصالحين... ابتسم للشتيمة..تحرسك ملائكة الله الصالحين...تصونك من مصير أخيك ...
البهلوان(يواصل): وذات مرة ...صفعني أحد الأطفال ..كانت ضربة موجعة جعلت دموعي تطفر من عيوني توقفتُ عن الرقص ... نسفتُ وصايا أمي ...لطمته ..فاستعاذت أمي من الشيطان الرجيم وأخذت تبكي وتتوسل من الأولياء أن يسامحوني ...أحسست ُ بالبرد..رجفتُ ..عدت إلى المنزل منكسرا ً..شعرت بالحزن يعصرني ..بسبب أمي لم أتناول العشاء ...أقنعتني أمي أنني مريض...أخذتني إلى رجل صالح ..أخرج عودا ًونقعه في الماء ثم تمتم بكلمات غير مفهومة وأخذ يمد العود على ساعده وبعد أن أنهى عمله ...أطلق حسرة وقال : عين امرأة...
ثم أخذ يغطس العود في الإناء ويرشه في وجهي ... عدنا إلى البيت ملتذا ً بالماء والتسابيح ...شعرت بالجوع ...تناولت عشائي وسط فرح أمي وسعادتها في صباح اليوم التالي ألبستني أمي ثيابي وقالت :
صوت الأم : "إياك أن تكرر ما فعلته يوم أمس ...لقد كدت أن تقضي على نفسك لولا رحمة الباري ...لا تنسَ وصاياي...ابتسم للشتيمة..أدر قفاك للضربة..."
ثم قرصت أذني وقالت :
صوت الأم : "إياك أن تكرر الأمر وإلا وسدتك في التراب مع شقيقك"
فخرجت إلى الشارع متعبا ً، منهكا ً ، وكانت أمي تلكزني بعود وتقول : ارقص جيدا ً...أرقص...ابتسم ...إجعل ْ نفسك هزأة جيدة ...وبعد أن قطعت خطوات رآني ذلك الولد العفريت فجرى نحوي بأقصى سرعة...نظر في وجهي ...بادلته بنظرة غاضبة فلتت مني ...تراجع..وقف خلف ظهري وبلمحة البرق وضع إصبعه في ......(صوت ضحك في الزنزانة)... إش...إش...ش...سيسمعون صوتنا ويطردوننا.... حافظوا على الهدوء لم يبق وقت طويل على بقائنا في هذا المكان المظلم الرطب ...أقول وضع إصبعه في ....الولد العفريت ...هرب وابتسمتُ ...فحمدت ْ أمي الرب لأن ابنها أصبح هزأة ممتازة !! ولم أمرض ذلك المساء ( أصوات خطوات خارج الزنزانة )
إنهم يقتربون ، يبدو أنهم سيفرجون عني ..من المؤكد هذا ...حتما ً سيعتذرون ....إذن لم يعرفوني ...الحمد لله ..سوف لن أعود إلى تلك القاطرة اللعينة...وإلى ذكريات السفينة الغرقى ...وصرخات الأطفال و...و...( الأصوات تبتعد ) اللعنة ...إنهم يسيرون إلى الزنزانة الأخرى إذن سأبيت الليلة هنا ...في الغد معي موعد مع امرأة ...ألا تصدقون ؟ امرأة " تحبني وأحبها ويحب ناقتها بعيري " امرأة تضحك معي لا عليّ ...ولا يعجبها أن أكون دائما ً هزأة ...تنظر لي كفنان محترم ... عندما رأتني أثارها رقصي وقفزاتي البهلوانية ..لاحظت اهتمامها بي ..في الحقيقة تجاربي مع النساء قليلة جدا ً...في صباي غمزت لي بنت جارتنا ..فبادلتها بأغمز منها ...ونظرة فابتسامة فسلام فكلام وقبل الموعد الأول مررت ُ ببيتها في جولة راقصة ...وعندما رأتني بثيابي تلك وطربوشي نظرت لي نظرة غاضبة وصفقت الباب بوجهي ...بعد ذلك الموقف جمعت ثيابي وطربوشي وأحرقتها رغم احتجاج أمي ...التي مرضت مرضا ً شديدا ً ...ثم ماتت...فانتقلت إلى بيت خالتي في مدينة بعيدة ...ومنذ ذلك اليوم وعلاقتي مع المرأة تأخذ جانب الحيطة والحذر ...حتى وقفت المرأة الشقراء تراقبني في حلقة الراقصين ...تذكرت بنت جارتنا ...ازددت تحديا ً وبذلت ُ جهدا ً مضاعفا ً في القفز لدرجة وقع الجمهور على قفاه وبذلت كل ما أوتيت من شحنات راقصة ...حتى فزت بحبها وبوظيفة بهلوان في سيرك المدينة....
هل دخلتم السيرك ؟ هل رأيتم كيف يتحول الحيوان إلى إنسان وكيف يتحول الإنسان إلى حيوان ؟ هذا أول شرط من شروط العمل في السيرك ...أرادوا لي أن أقف في المنطقة الحيوانية . حب هذه المرأة كان قد جعلني أقترب من المجال المغناطيسي الإنساني... كنت أرقص ...وأرقص ...وأرقص مثل قرد ...وفي النهاية أكسب القليل ...طالبت بعقد عمل ...ذات يوم طالبوني بأوراقي لتحرير عقد العمل ..تعذرت بضياعها..شكوا في أمري ..استغلوا بي هذه النقطة ...ضغطوا عليّ ..ولم تنفع وساطة حبيبتي وحضوتها لدى مدير السيرك ...وذات يوم استدعاني مدير السيرك إلى مكتبه وقال :
صوت مدير السيرك : لقد أعطيناك فرصة للعمل معنا بدون أوراق رغم أن هذا يعرضنا للقانون لكنك لم تستفد من هذه الفرصة الذهبية...لا تقاطعني أرجوك ...إذ أنك لم تعد ترعى الشمبانزي بشكل جيد وحركاتك أصبحت سقيمة ..لم تعد تضحك الجمهور حتى أنني لاحظت الليلة أن إحدى السيدات تثاءبت في فقرة من فقراتك لذا نقدم لك أجرك اليومي لهذه الليلة ونعتذر عن فقرتك في الليلة القادمة
البهلوان(يواصل): وعندما رأيت من شق الباب عيني البهلوان الجديد...ألقيت المبلغ في وجه المدير وخرجت ُ.....
تبعتني حبيبتي ...وجدت نفسي في الساحة العامة مرة أخرى ...بعد أيام أبلغتني أن مدير السيرك لن يغفر لي جلافتي معه وانه ينوي إبلاغ الشرطة عن عدم وجود أوراق ثبوتية معي ...فأنتقلت ُ إلى ساحة أخرى ..وكانت معي حبيبتي التي تعتقد أنني فنان موهوب ...صارت تغني في مطعم وأنا أرقص والناس يضحكون ...ويرمون لنا بالنقود حتى شبعت وخروجا ً على النص وقعت في حب امرأة أخرى مخطوبة ...وفي عرسها رقصت رقصا ً مبرحا ً حتى مات الحضور من الضحك وطردني صاحب المطعم بعد أن أهنت العريس إمعانا ً في إذلالها بعد أن رقصت ...رقصت ...رقصت...إش...ش..ش...الكل نائم حتى الحارس ...فلا ترفعوا أصواتكم ...لقد خرجت ُكثيرا ً على النص ووصايا أمي ...وهو أمر تكرر معي كثيراً في الحرب ستقولون كيف ؟ يا أخوتي في السجن ...في الحرب كل شيء يتحول إلى سخرية ..حيث الفراغ والبطالة وتفاهة الموت ...وتفاهة الحياة حتى ...كان الجنود يسخرون من شطب شاربي عن آخره ...........
ويسمونني " صوفيا لورين " وقطعا ً لألسنتهم تركت شاربي ينمو فسخروا من شكله المربع القصير وصاروا يسمونني " هتلر" وعندما تركته يمتد ما شاء له الامتداد صاروا يسمونني "شيخ الغفر" وكانت السخرية تبلغ قمتها عندما يحدث هجوم ...حيث الطائرات تقصف ...الدبابات تتقدم ...الرصاص يلعلع ...الشظايا تتناثر ...الدخان يتصاعد ...ونحن في هذه القيامة طيور مذعورة تفرُّ من موضع إلى آخر ...من ركن معطوب إلى ركن لم يطله العطب ..والرصاص يحف بمواكبنا المتناثرة ...وكنا نتقدم ...نتقدم ...في الكشافة كنا ننشد :
أنا جندي عربي بندقيتي في يدي
أحمي فيها وطني من شرور المعتدي
تي تي طاق تي تي طاق
كنت ألثغ بحرف "الراء" وكنت ألفظها هكذا :
أنا جندي"عغبي" بندقيتي في يدي
أحمي فيها وطني من شغوغ المعتدي
وكان التلاميذ في المدرسة يسخرون مني ويصيحون "عغبي " "شغوغ" ...لم تنفع ثياب الكشافة الجميلة التي اشترتها لي أمي كهدية نجاح باهرة في كسب احترام التلاميذ ولم تنفع بندقيتي الخشبية في إخافتهم ...وفي النهاية ضربتُ أحدهم ببندقيتي ضربة شجّت رأسه ...وهربت من فرقة الكشافة والمدرسة وكان عهد لي بها ...أريد كأس ماء ...لقد تكلمت كثيرا ً ...لا تقلقوا لديّ المزيد من الكلام سأقوله قبل أن أغادر هذا المكان ...أنا واثق أنهم شكّوا في أمري إنها شكوى صاحب السيرك ستعيدني إلى ذلك المكان التعيس...إلى أين وصلت ُ ؟ إلى الحرب ؟من أين أبدأ مع الحرب ؟وأين سأنتهي ؟ سأذكر لكم آخر عهدي بالحرب ...ففي نهاية إحدى المعارك أراد الآمر أن يمزح ...ولما لم تكن هناك مزحة تليق بنهاية معركة مثلما تليق لعبة الموت لذا غمز لمساعديه فكتـّـفوني وأبتدأ التحقيق معي
( ظلام ، ضوء يسلط على الآمر والبهلوان في ملابسه الجندية )
الآمر : اخلع النطاق وتقدم ...أنت الآن تمتثل أمام محكمة عسكرية
الجندي(مرتجفا ً): ل......ما.........ذا ؟
الآمر : التهمة الموجهة ضدك أنك متخاذل
الجندي : منْ قال هذا ؟ لقد ثبت ُّ في موضعي وتقدمت معكم
الآمر : ولكنك كنت أول من انسحب من المعركة
الجندي : كم تعلم أنا جندي مطيع لأوامركم ، وقد سمعت أمركم
بالانسحاب فانسحبت ُ
الآمر : انسحابنا يا غبي كان " تكتيكيا ً" لإطماع العدو في التوغل بينما انسحبت أنت انسحاب الجبان
الجندي : لقد " تكتكت ُ" أسوة ً بكم ...يا سيدي الآمر
الآمر : لقد قصرت في واجبك وعليه أمرنا بإعدامك
الجندي : سيدي ...لم أقصر بواجبي أبدا ً....
الآمر : هيا استعد للموت وأنتم أيها الجنود استعدوا للتصويب
الجندي : أتوسل إليك يا سيدي ألاّ تعدمني ...خالتي تنتظر عودتي لأخذها لزيارة النجف ...زيارة الأربعين ...سيدي أنا على أبواب زواج ...لا تعدمني سيدي...لم أفعل شيئا ً يستحق الموت ...أرجوك سيدي...أقبّل تراب أقدامك ...
الآمر : لقد أصدرت قراري وانطوت صفحة حياتك والآن إذا كانت لديك رغبة أخيرة ...أدل بها بسرعة
الجندي : رغبتي أن تتراجع عن قرارك لوجه الله ...أعف عني
الآمر : قلت لك انتهى الأمر ...وإذا لم تكن لك رغبة أخيرة فأنا لي رغبتي ....
الجندي : سأنفذ ما تطلبه مني سيدي
الآمر : إذن أرقص....أرقص....
(الجندي يرقص رقصة مجنونة وأثناء ذلك يصّوب عليه الجنود طلقات خلّب ..يعلو صوت الرصاص .. يقع الجندي مغشيا ً عليه وسط ضحكات الجميع )
البهلوان : وعندما فتحت عيني
( ظلام ...ضوء...المشهد السابق )
الجندي : أين أنا ؟
الآمر(مرتديا ًقناعا ً أسودا ً): أنت في العالم الآخر ، هيئ نفسك للحساب
الجندي : سيدي الرحمة...سيدي
الآمر : كف ّ عن الصراخ لئلا تزعج أرواح الموتى ...سيتولى أمرك ملاكا الحساب منكر ونكير(يصيح ) أيها السيدان ....توليا أمر هذا العبد
( يدخل المسرح رجلان يرتديان الملابس العسكرية ويخفيان وجهيهما بقناعين أسودين )
الأول : اعترف
الجندي : بماذا ؟
الثاني : من أي الجهات المشبوهة تقبض راتبك ؟
الجندي : من نائب ضابط " خميس "
الأول : ولصالح من يعمل هذا ؟
الجندي : يعمل لصالح شعبة الرواتب في الفوج
الآمر : اخرس يا أحمق... لاتأتِ بإسم "الفوج" على لسانك أيها العاصي
الأول : إلى أي حزب تنتمي ؟ (يضربه بالسوط)
الجندي : لاأفهم منطق السؤال
الثاني : إنه يتغابى ( سوط )
الأول : ما صلتك بالمعارضة ؟
الجندي : يشهد الله أنني لا أعترض أحدا ً ولا أتعرض لأحد ٍبسوء
الثاني : نقصد أيها المتغابي ، ما مدى تعاونك مع أعداء الوطن والدولة ؟
الجندي : منذ ربع قرن وأنا أقاتل أعداء الوطن والدولة ولا يشغلني سوى هذا
الأول : ( سوط ) نعني أعداء الوطن في الداخل أولئك الذين يتآمرون لقلب نظام الحكم
الجندي : أي حكم ؟
الثاني : حكم الرئيس
الجندي : رئيس عرفاء الوحدة ؟
الآمر : يبدو أنك مصر على عدم الاعتراف ...لنا وسائلنا الخاصة لانتزاع اعترافاتك ...آتوني بالسلك الكهربائي و....( يسمع صوت قنبلة ) ( يطفأ الضوء...المشهد الأول )
البهلوان : وأنهى سقوط القنبلة المشهد الهزلي الذي كنت ضحيته فصار ضحيته الآمر حيث أطاحت شظية بعنقه ...وآخر كلمة قالها الرأس بعد سقوطه " اعترف "
بعد موت الآمر وجرح عدد من الجنود ساد الهرج والمرج في ساحة الموت ....لقد بدأ المزاح الثقيل بالضحك وانتهى بالدم والدخان ...عندها حملت حقيبتي وأدرت ُ ظهري للحرب
( خطوات في الخارج ...يفتح باب الزنزانة ...يدخل ضابط...ينظر في وجهه .. يخرج )
أخرجوني من هنا ...أخرجوني لا أستطيع أن أبقى أكثر من هذا الوقت .....لا تعيدوني إلى "قطار اليأس" ....ما قصتي مع " قطار اليأس" ؟ صبرا ً..سأحدثكم عن هذا ...فالليل طويل ...بعد أن أدرت ظهري للحرب ...أدرت ظهري للوطن طبعا ً ...إذ لا مكان لمن يدير ظهره للحرب في وطني ...وكان هدفي الوصول إلى "أوربا" ...رسائل أصدقائي الذين وصلوا "أوربا" ...رسائل أصدقائي الذين وصلوا "أوربا" تتحدث عن الشقة الفارهة والراتب المنتظم والقنوات التلفزيونية العديدة وسيقان العذراوات البضة والقبل المجانية في الشوارع العامة الكفيلة بأن تنسيك دخان الحرب والانضباط العسكري في واجهات الشوارع ....في "الساحة الهاشمية" بعَمّان بعت السجائر بالمفرد.... والسمسمية واللبان...عملت ُعاملا ً في مطعم....و...و...
و...في المساء كنت أعود متعبا ً منهك القوى لأسمع أنين رفاقي في الشقة الباردة ...وذات يوم حدّثوني عن الأمم المتحدة ،حملت جوازي ودخلت المكتب، أعطوني
موعدا ً...ذهبت في الموعد ..قلّب الموظف ملفي ...ثم نظر في وجهي
( ظلام ...ضوء على غرفة في مكتب الأمم المتحدة ...
الموظف يستجوب البهلوان )
الموظف : لِمَ لا تعود إلى بلدك ؟
البهلوان : لا أستطيع .....حكم الموت ينتظرني
الموظف : لماذا ؟
البهلوان : لأني هربت ُ من الحرب...وجريمة كهذه عقوبتها الموت
الموظف : أريد دليلا ً
البهلوان : أي دليل ؟
الموظف : دليل على حكم الموت الصادر ضدك شخصيا ً
البهلوان : هذا أمر لا يحتاج إلى دليل .....شيء معروف لديكم ...
حتى وسائل إعلامكم تتحدث عن هذا
الموظف : أيها السيد لاداعي للانفعال ...نحن في هذا المكتب لا نتعامل بالعواطف بل بالأدلة والبراهين والأوراق....
البهلوان : لكن المادة الرابعة عشر من البند الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقول " إن لكل إنسان الحق في أن يسعى للجوء وأن يتمتع بحماية دولة أخرى "
الموظف : هذا صحيح لكن اللجوء حق للدولة وليس حقا ً للفرد
البهلوان : لكنكم هيئة أمم وليس دولة ؟
الموظف :لا نستطيع أن نفرض على أحد حالة لم تستكمل شروطها
البهلوان : وما هي هذه الشروط ؟
الموظف : نحن ندافع عن حرية الإنسان المضطهد في أي مكان ...هات أوراقك التي تثبت أنك مضطهد في بلادك وأنك ...وأنك ....ونحن نسعى لحمايتك
البهلوان : ألا تكفي السنوات التي أهدرتها هناك على لاشيء؟....
ألا تنظر إلى حالي ؟
الموظف : عفوا ً... أمامي عمل كثير...انتهت المقابلة....
( ظلام ....... المشهد الأول )
البهلوان(يواصل): عندها تذكرت إصبع الصبي المزروعة في مؤخرتي ....تذكرت ُبندقيتي الخشبية التي ثأرت للثغي بحرف الراء وأنهت علاقتي بالدراسة......تذكرت ُ الآمر...القنبلة ...تمزيقي لملابس الرقص والطربوش ...عدت إلى العمل ...ازداد إصراري على "أوربا"......
على الحمام في الساحات الكبرى .....تطور عملي ..صرت أكسب مبلغا ً جيدا ً...سمعت بوجود مكتب للتهريب إلى " أوربا "..طرقت بابه...أفرغت جيوبي عن آخر دولار في خزائنه...بعد أيام بدأت الرحلة الطويلة الشاقة على متن سفينة تضم أشخاصا ًمن جنسيات مختلفة ....
( ظلام ـــــــــــ السفينة )
الكابتن : نحن نقترب الآن من شواطئ "لاتفيا"
المساعد : ثمة عاصفة تقترب من السفينة
الكابتن : لا عليك ...إنها لا تشكل خطرا ً على سفينة كبيرة مثل سفينتنا
المساعد : إنني أرى موجة كبيرة تقترب...
(السفينة تهتز ...أطفال يصرخون )
الكابتن : سأنحرف قليلا ً نحو الشاطئ ...لا داعي للقلق فنحن في مأمن
المساعد : وحتى لو نزلنا عند الشاطئ فنحن لا نملك" الترانزيت"
الكابتن : لن نتوقف عند الشاطئ ...سنقترب منه فقط ونفهمهم أننا واجهنا مأزقا ً وسنواصل السير إلى "السويد"بعد انتهاء العاصفة
المساعد : أرجوك لا تضعنا تحت طائلة القانون فنبتلى بجريمة التهريب فنحن لا نملك أوراق مرور... وجميع الركاب لا يملكون أي وثيقة رسمية
الكابتن : قلت لك سأقترب من الشاطئ عند الضرورة...
المساعد : إحذر موجة عالية جدا ً...انحرف نحو الشاطئ........
بسرعة ....
( صراخ نساء وأطفال ...صوت تحطم سفينة )
( ظلام ..... المشهد الأول )
البهلوان(يواصل): وتحطمت سفينتنا ......ومن حسن حظنا وحنكة
الكابتن إن اقترابنا من الشاطئ جعلنا في مأمن من الموت إذ أنقذتنا من الموت فرق الإنقاذ المنتشرة في الشاطئ ...وبعد أن نجونا من الموت ، حجزونا عند الشاطئ..كنا نظن أن الأمر سينتهي بعد تجفيف ملابسنا وأخذ حمام شمسي باعتبارنا ضحايا كارثة طبيعية ...لكن الأمر لم ينته ِ...أتعرفون لماذا ؟ لأن السلطات في "لاتفيا" رفضت استقبالنا ...وإكتفوا بنقلنا إلى ثكنة عسكرية بعد أن جردونا من ممتلكاتنا ...وصرنا مجرمين بعد أن كنا ضحايا كارثة ...
( يُسمع صوت أذان الفجر)
الله أكبر ....إنه الفجر يطلع علينا ...هل نمتم ؟لم يبق من حكايتي إلا القليل ..بعد ذلك وضعونا في قطار يتألف من عربتين محاطتين بحراسة مشدّدة ...أرغمونا على عبور الحدود إلى " بيلوروسيا " وهناك طردونا باتجاه "ليتوانيا"وأعادونا من حيث جئنا ....ثم أُرسلنا إلى "لينينغراد" ورفضت "روسيا" استقبالنا ، ذهب القطار بنا (12) مرة خلال خمسة أيام وعاد دون نتيجة تذكر...
تذكرت الموظف في مكتب الأمم المتحدة...تذكرت كل ما دار...ثم وضعونا في سجن مؤقت في "لاتفيا"..وإزاء
الأوضاع المتردية في السجن مرضت ُمرضا ً شديدا ً وطلبت ُمعاينتي في مستشفى ...رفضوا في البدء...بعد أن ازدادت حالتي ترديا ً وإصراري على النقل إلى مستشفى قبلوا على ذلك ...وليلة الاحتفال برأس السنة صحوت على أصوات حفلة راقصة في المستشفى ......
دبّت القوة في أوصالي ، اقتربت من الغرفة ...وجدت ممرضين وممرضات يحتفلون ...بدأت أتلوى بحركات بهلوانية ...ضحكوا ..فسحوا لي المجال وسطهم رقصت ...رقصت (يرقص) وبعد أن بلغ بهم السكر مبلغه تسللت خارج المستشفى ...في اليوم التالي ...بحثوا عني ...كنت أسكن في قرية صغيرة أتلوى أمام أطفال المدارس ...بعد أن شعرت بالأمان انتقلت إلى المدينة وصرت أرقص في الساحات العامة ...لاعنا ً"قطار اليأس "وهو الاسم الذي أطلقته الصحافة على قطارنا اللعين ...كنت أرقص ...أتذكر وأرقص ...........أرقص
( يرقص )
( صوت فتح باب الزنزانة....يدخل ضابط ومعه جنود)
الضابط : ما زلت َبارعا ً في الرقص..
البهلوان : مثلما تبرعون في الرقص على حلبة الصراعات الدائرة في العالم
الضابط : وتتكلم في السياسة أيضا ً ؟
البهلوان : هكذا علّمتني الساحات العامة والتشرد بين البلدان
الضابط : هل تسمح ببطاقتك الشخصية ؟
البهلوان : (يشير إلى ثيابه) هذه بطاقتي
الضابط : جنسيتك ؟
البهلوان : (يصمت ....يبدأ بالتلّوي )
الضابط : لائحة التهم الموجهة ضدك طويلة : تجاوز الحدود ...الهرب من السجن...الإساءة إلى مدير السيرك...التشرد.....
( ينطلق صوت صفير قاطرة ... يرتفع ... يرتفع........
البهلوان يزداد تلوّيه..... يرقص ..... يرقص .........
يكتفونه..... يرتفع صوت القاطرة حتى تصم الآذان )
( ظــــــــــــــــــــــــــلام)
( يسدل الستار )