في هذه الزاوية سأحكي لكم عن قصة عايشتها وكتجربة إنسانية ارتأيت أنه من الجميل أن أنقلها لكم, البداية كانت "هي", و"هي" صديقة عمتي منذ زمن بعيد، تعرفت عليها وأنا لم أزل طفلة و"هي" شابة في مقتبل العمر والأحلام، عرفتها جميلة، متدفقة بالحياة، وكثيرا ما كانت تشاركنا اللعب على الأرجوحة مطلقة قدميها لتدفعانها إلى أبعد مدىً تصلانه في الهواء. في صغري اعتبرتها القدوة التي تمنيت أن أكونها عندما أكبر, جمالها، ذكائها, حبها للحياة، أناقتها لباقتها ودماثة خلقها جعلنا نثرثر عنها طويلا حين كنا نتحلق حول العمة أثناء إعدادها لأقراص الخبز، الذي كانت تعطينا بعضه ساخناً مدهوناً بالبيض والعسل. " هي " لم تكن تزورنا كثيراً ولكن مجيئها ظل يفتح أقفال مدن بيضاء في ردهات قلوبنا الغضة. لكم أحببتها وحزنت على انقطاعها عن زيارتنا بسبب زواجها وسكنها في منطقة بعيدة، بعد ذلك ظللت استقي أخبارها من أمها التي لم تنقطع عن زيارتنا. أخبرتنا أنها أصبحت معلمة في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة وأخبرتنا أنها سعيدة وموفقة في عملها و زواجها، ذات يوم فتحت التلفاز، لأفاجئ بها "هي" بذات بهائها وجمال حضورها وقد حلت ضيفة في برنامج يحتفي بذوي الاحتياجات الخاصة، كانت عيناها تشعان بريقاً وأملاً متجدداً في حياة أفضل لتلامذتها الذين لم يكن صعباً على الكاميرا التقاط تعابير وجوههم الطافحة بالعزيمة والإرادة والتصميم. لا ريب أن "هي" كانت قد غرست الكثير منها في نفوسهم. يشاء القدر أن تمضي سنين أخرى وتنقطع أخبارها إلا لماما حتى جاء ذلك اليوم الذي لمحتها فيه من بعيد وهي تمشي برفقة زوجها وطفليها باتجاه مدرجات الحضور في مجمع السلطان قابوس الرياضي ببوشر حيث كان يقام هناك مهرجان العيد الوطني. كنت أنا من ضمن المشاركين وكانت "هي" من ضمن الحضور، كانت تلك هي المرة الأخيرة التي أراها فيها تمشي على قدميها، فبعد فترة وجيزة تعرضت لحادث أدى إلى إصابتها بشلل. ذهبنا لزيارتها بعد رجوعها من العلاج بالخارج ثم كررنا الزيارة مرات عدة. كانت ما تزال تذكر الكثير عنا و تسمينا "بالصغار" علمنا منها أن الصاحبات عنها قد تفرقن ولم يبقى إلى جانبها سوى زوجها وأمها وأطفالها. كانت تتحدث بصعوبة بالغة، لكن لسانها ما فتئ يشكر الله ويحمده على جزيل نعماءه وفضله. تشكره للإعاقة التي من خلالها استطاعت أن تسرع الخُطا إليه, لم تكن عاتبة على أحد فقلبها كان قد تشبع بنور المحبة العظمى والتسليم بقضاء الله . "هي" لم تزهد يوماً في الدنيا بل ظلت محافظة على العناية بهندامها وزينتها لكي يراها زوجها الحبيب كما يحب أن يراها, هذا الزوج الذي احتواها وحماها وتقبلها على ما هي عليه اليوم لا على ما كانت عليه بالأمس, فظل وفياً محباً فكان بذلك أعز الصحب وخير رفيق في الدنيا، "هي" لم تزل مبتسمة، لم تزل مثابرة على قهر الإعاقة بأداء تمارين العلاج الطبيعي في المستشفى أملاً في غدٍ أفضل. "هي" تتحسن ببطء ولكن روحها المتدفقة بالإصرار والعزيمة لم تخبو في أي يوم ينميها الإيمان بالله والحب للزوج والأطفال والحياة.
