لم أكد أعرفها حين التقيتها مؤخراً وللوهلة الأولى, كان ذلك هو اللقاء الأول بعد مضي أربع سنوات على لقاءنا الأخير, وكانت ملامحها قد تغيرت كثيراً لدرجة أثارت دهشتي, لكنني بعد حديث قصير علمت بأن نظرتها للحياة لم تتغير, وعلى الرغم من ذلك فهي لم تعد تشبه تلك المجنونة التي أقدمت على محاولة الإنتحار لثلاث مرات متتالية, الأولى حين فارقها فتى الأحلام, والمرتين الأخريين حينما أصابها اليأس من إمكانية الحصول على وظيفة تناسب مؤهلها الجامعي عقب انتظار دام ثلاث سنوات, أذكر أنني كنت أزورها بالمستشفى عقب كل محاولة انتحار مع بعض الرفيقات, لنطمئن على وضعها الصحي ولنذكرها بأن الحياة أجمل وأكثر قيمة مما يصوره لها عقلها, ثم نعاتبها لرغبتها في فراقنا ونحن المحبين لها, ومن بعد ذلك نؤكد لها عن يقين بأن الرب سيبدّل كربها بفرج قريب, ونسوق لها تلك الحكمة التي تقول بأن دوام الحال من المحال, وأن المستقبل الذي لا نعلمه سيكون مشرقاً وبهياً بلطف الإله, ثم نفارقها وقلوبنا تمتزج بالخوف والشفقة على صديقتنا التي لا تني عن استجداء الإهتمام والشفقة بطرق بالغة السخف!
في لقاءنا الأخير وبعدما تذاكرنا ذاك الماضي المجنون علمت منها أن الحياة قد ابتسمت لها من بعد عبوس طويل, بل أن الأحلام كلها قد تحققت دفعةً واحدة, فقد تحصلت على وظيفة بمنصب مرموق وراتب كبير, وبنت بيتاً فخماً كما أشترت سيارة الأحلام الفارهة, وها هي تستعد للزواج من إحدى الشخصيات الشهيرة. في تلك الأثناء بدا لي أن أسئلها هل جلست بينها وذاتها لتعاتبها على القنوط واليأس من عدالة السماء؟, هل ندمت على محاولة تجريب الموت في الماضي بعدما أكتشفت كل المفاجآت السعيدة التي كان الرب يدخرها لها في عالم الغيب؟ لكني عدلت عن طرح تلك الأسئلة التي قد يكون في طرحها في لقاء عابر بعض الحرج.
غادرتني صديقتي دون وعد بلقاء قريب, لكن اللقاء لم يعد مهماً طالما أن المصالح والظروف قد تباينت, فها هو اللقاء الأول بعد أربع سنين يأتي لغرض المصلحة وينتهي بانتهاءها, حين أنصرفت وقفت أتأملها وأسترجع الماضي الذي فرض نفسه بقوة في ذاكرتي وأنا أردد في داخلي "حقاً أن دوام الحال من المحال!"
