مسرحية
عبد الرزاق الربيعي
رامبو في المسرح العربي
قراءة في مسرحية " ضجة في منزل باردي " لعبد الرزاق الربيعي عواد علي
تفيض شخصية رامبو، الشاعر الفرنسي المتمرد، وأحد آباء الحداثة الشعرية في أوروبا، سحراً وجاذبية في نفوس الكثير من المبدعين والمثقفين العرب، ولذلك كان لهذه الشخصية حضورها في العديد من الأعمال الأدبية والفنية، وبخاصة المسرحية منها، وكنت قد شاهدت أول عرض يتناول حياة رامبو من تأليف و إخراج المسرحي العراقي حسين علوان، الذي قدمه في دارة الفنون بعمّان عام 1996، وهو يركز على بعض المراحل من سيرة الشاعر في فرنسا ورحلته إلى أثيوبيا وعمله في تجارة الأسلحة والرقيق ومغامراته الوجودية ومعاناته الشديدة بعد بتر ساقه. وقد أعادت فرقة المسرح الوطني اليمنية إنتاج هذا النص، فيما بعد، بإخراج محمد الرخم. وفي عام 1999 شاهدت عرضاً ثانياً بعنوان (عدن... عدن) تأليف و سينوغرافيا وإخراج التونسي حسن المؤذن، أنتجه المسرح الوطني التونسي، وقدم في أيام قرطاج المسرحية، وهو يبدأ من اللحظة التي كان فيها الشاعر على فراش المرض يتهيأ للموت بقلب غير واجف، أعزل إلاّ من التجديف والشهوة والرغبة اللانهائية في الامتلاك، على الرغم من أنه مقتنع بأن مغامراته الوجودية قد أشرفت على نهايتها الفاشلة، وبخاصة أن ساقه قد بترت، والمرض أخذ من جسده كل مأخذ. وتواصلاً مع ذاته المتمردة التي اختبرت معاناة الكلمة، وجراحات الواقع، وعذابات الروح، فإنه يتأهب للوداع الأخير رافضاً إلحاح القساوسة على الاعتراف، والصلاة للرب، ساخراً من كهنوتهم ودعاواهم، والى جانبه أخته إيزابيل التي تطلب له الغفران وترجوه الإصغاء إلى نداء القساوسة الذين استدعتهم لكي لا ينتهي نهاية وثنية.
وأحدث ما قرأت عن رامبو في المسرح العربي مسرحية رفيعة المستوى للشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي بعنوان (ضجة في منزل باردي) نشرها مع نصين آخرين في موقعه الشخصي على الإنترنت، وباردي هو بيت قديم في كريتر بعدن، كان وكالة لبيع الحبوب، سكنه رامبو في أثناء إقامته في عدن عدة أعوام. وتستند المسرحية إلى مرحلة في حياة رامبو، وعلاقته بصديقه الشاعر الفرنسي فرلين الذي هجر زوجته وسافر معه، ثم أطلق عليه النار فأصابه في كفه، فعاد رامبو إلى باريس ليكتب ديوانه (فصل في الجحيم). ولا تظهر شخصية رامبو أو اسمه في المسرحية، ولا يرد ذكره إلاّ بصفته شاعراً، في حين نسمع مقاطع من شعره على لسان بطل المسرحية (الرجل = فرلين) الذي يقرأ في مخطوطة (فصل في الجحيم)، ثم يبدأ باستذكار صديقه الشاعر الشاب الذي استضافه في منزله، فاحتفت به عروسه كثيراً أمام أنظاره، ونشأت بينهما علاقة ما نكتشف طبيعتها في نهاية المسرحية. ولكن الرجل وصديقه سرعان ما يغادران المنزل في رحلة، تاركين العروس وحدها. وذات يوم يتشاجران، فيطلق الرجل رصاصة على الشاعر ويصيبه في يده، فتحكم عليه المحكمة حضورياً بالسجن سنتين مع الأشغال الشاقة. وعلى الرغم من شفاء الشاعر فإن جرح الرجل لم يندمل، وظل بعد خروجه من السجن يبحث عنه وعن عروسه حتى وصل إلى هذا المكان المهجور في عدن، وهو بيت نابت على البحر، مخضب برائحة السمك والحبوب والذكريات. وفجأة تطرق الباب امرأة فرنسية تسأل عن شخص فرنسي يقيم في هذا البيت كلما وصل إلى عدن، وقد اقترح المؤلف عبد الرزاق الربيعي شكلاً للبيت يتألف من قسمين، قسم علوي يمثل الخارج لتظهر فيه المرأة، وقسم سفلي يمثل داخل البيت ليظهر فيه الرجل. ويستغرق الحوار بين الشخصيتين المسرحية كلها، كاشفاً عن انشغال الرجل بالبحث عن مفتاح الباب، وضيق المرأة من الانتظار، واعترافها بأنها هي العروس التي هجرها الرجل، وأن علاقتها بالشاعر كانت علاقة غرامية " بذلت له فيها قلبها"، ولكنها تابت عن خطيئتها، وأصبحت " الآن قديسة في السماء" . أما الرجل فإنه يوحي في حواره بأن رحيله مع الشاعر كان بدافع الحب أيضاً، فقد " كانت محبته مسحورة" ! وهذا يطابق حقيقة العلاقة التي كانت تربط فرلين برامبو كما تكشف سيرتاهما.
ويوظف الربيعي في هذه المسرحية، ببراعة، بعض رموز ملحمة (الأوديسة) من خلال تشبه المرأة بشخصية (بنيلوب)، وبحثها عن (عوليس) على الرغم من التباين الكبير بين شخصيتي المرأتين، فها هنا تخون المرأة، وهي لما تزل عروساً، زوجها، في حين تظل (بنيلوب) وفية وفاءً نادراً لزوجها (عوليس) الذي غاب عنها عشر سنين كما تروي ملحمة هوميروس. ولعل من أبرز سمات المسرحية أسلوب حوارها، الذي زاوج فيه الربيعي، بمهارة، بين الشاعرية والتلميح والسخرية الهادئة، وهو أسلوب يأسر القارئ بسلاسته وروحه الدرامية.
الزمن الذي نتعشقه
مثل المروج عليها
النسيان انسدل
نمتْ وازدهرت بالبخور
الزمن الذي نتعشقه
(صوت سفينة يبتعد )...لكن لاشيء سوى الوحل والطحلب والفراغ ...(يواصل القراءة) ماذا يتبقى للغصن الناحل إذا جرفته الأمواج بعيداً عن اليابسة ؟ إذا أسلمته اليابسة لأعماق البحر ...هذا هو حال الساعة العاطلة على الجدار (ينهض ..يخلع ربطة عنقه) بهذه الرتابة تغادر سفينة الحياة ...ولا شيء ...لماذا أضع عيني في عين نجمة شاردة ؟ هكذا أسأل نفسي في ساعات الصحو...ولكن ما الفائدة ؟ .......
وحل ...البياض وحل نظيف.....الهواء كذلك .....الذاكرة وحل أيضا ً...الأمس وحل ...وحل ...وحل ....وحل ....
(يذهب إلى رف كتب ...يخرج مسدسا ً...يزيت أجزاءه ويصّوب نحو الفراغ ....يصرخ )
لا...لا أريد أن أتذكر هذا ...أبدا ً...لم أكن أقصد إيذاءه ...لم أتصور أن يده التي تكتب هذه الكلمات تتلوى مثل عصفور ذبيح مبلل بدمه ...لكن الرصاصة اللعينة انطلقت مثل الشهوة ...واخترقت يده ...ورصاصة واحدة كافية لإخراج المرء من الفردوس...فردوس المحبة...في المحكمة قال لي الحاكم : أنت متهم بالشروع بقتل صديقك الشاب وإصابته بيده...فضحكتُ...ضحكت ُ...محامي الدفاع ...الشهود...ضحكتُ...التهمة...الصحافة ...الكل يسأل عن السبب ؟...السبب الكامن وراء جريمة كهذه...رجل يستضيف شاعرا ًشابا ًفي منزله...يقدّمه لعروسه التي تحتفي به أيضا ً..
تحتفي كثيرا ً...تحتفي أمام أنظاره...تحتفي...فجأة...يسافر معه
...يهجرانها... يستمران في رحلتهما ...وذات يوم يتشاجران...
ترتفع أصواتهما ...
أصوات رصاص ...صراخ... بوليس..
الحاكم : حكمت المحكمة حضوريا ً بالسجن لمدة سنتين مع الأشغال الشاقة ....
ضحكتُ...ضحكتُ...أما هو فقد خرج من المستشفى إلى قريته الوادعة بينما ذهبت إلى السجن ...بعد عامين من الظلام والندم خرجت أبحث عنها ...عروسي التي هجرتها ...لم تكن هناك...أخبارها مقطوعة ..انتقلت إلى مكان ما ، لم يكن المكان في مكانه ..انتهى العرس...وتفرق الضيوف..واندمل جرح يده..لكنني لم أندمل ..بحثت عنه ...عنها ...عنهما ...عني..حتى
وصلت ُ إلى هذا المكان المهجور...هذا البيت النابت على البحر
المخضب برائحة السمك والحبوب والذكريات ...
صوت امرأة( تغني): إن كان قد بقي
مدفع عتيق بين حصونك المحطمة
فأقذفنا بالجلاميد
واقذف زجاج المتاجر الفاخرة
والقاعات ....
دس السمّ في السراب
وأحش المخادع ببارود
وياقوت متقد
الرجل : ما هذا ؟ امرأة تغني بالفرنسية ؟ أم ...آه....إنها ......إنه الجحيم
يتسّرب إلى الأعماق ...الجحيم...من الذي ...؟ كيف ؟...........
( تطرق على الباب )
إنها تبحث عنه ...الماكرة...سأعرف كيف أحطم حصونك
( يزداد الطرق )
( يستمر الطرق على الباب )
الرجل : مَنْ في الباب ؟
المرأة : أهذا منزل السيد هاردي ؟
الرجل : نعم ، ولكن لا يوجد أحد في الداخل
المرأة : أيها اللاأحد ...افتح الباب ....
الرجل : ماذا تريدين ؟
المرأة : لدي سؤال حول شخص فرنسي يقيم في هذا المكان كلما وصل " عدن "
الرجل : قلت لك لا يوجد أحد في الداخل
المرأة : يبدو أنك لا تصدق أنني سيدة فتأخرت َ في فتح الباب فافتح البحر أيها الباب
الرجل : ماذا ؟
المرأة : أعني افتح الباب أيها البحار
الرجل : لست بحارا ً أيتها السيدة ...ولسنا في سفينة...يبدو انك شربتِ كثيرا ً...أنت الآن على اليابسة
المرأة : أية يابسة ؟ هل أُصبتَ بالصمم بحيث لا تسمع صراخ الموج عندما ينطح الصخور...؟ إن روح البحر تنتشر حول الساحل بكيلو متر ...
الرجل : صحيح أن السكارى شعراء بالفطرة
المرأة : أما تزال تعتقد أنني جنية ؟ فلم تفتح الباب له أيها البحار الخائف من ظله
الرجل : قلت لك ِ لستُ بحارا ً
المرأة : يبدو أن البحر أقالك من ظهر موجة فأصبحت حارسا ً لهذه الوكالة ....
الرجل : هل أنتِ تاجرة حبوب ؟ لقد سافر الجميع إلى "أثيوبيا" وذهب الحارس إلى منزله منذ أسبوعين
المرأة : إذن لماذا اختبأت في هذا الجحر الموحش أيها الفأر ؟
الرجل : يُحسن بك أن تهذبي ألفاظك أيتها السيدة ...يبدو أنك تناولت الكثير من الشراب والطعام والأشعار
المرأة : الأشعار ؟
الرجل : نعم
المرأة : وماذا يفعل رجل مثلك في كتب الأشعار ؟
الرجل : أُطهر نفسي من أدرانها
المرأة : يطيب لي أن أقاسمك مائدة الشراب والأشعار
الرجل : إذن اتفقنا
المرأة : ولكن افتح الباب أولا ً
الرجل : قلت ُ لك ِ لست ُ حارسا ً
المرأة : إذن لماذا أنت هنا ؟ ما هي وظيفتك بالضبط ؟
الرجل : أنا هنا أنتظر
المرأة : أهذه وظيفة تليق برجل ٍ محترم ؟
الرجل : نعم ، وامرأة محترمة أيضا ً !
المرأة : ولماذا لم تفتح الباب حتى هذه اللحظة أيها الحارس المحترم ؟
الرجل : قلت لك ِ لست حارسا ً....مفاتيح الباب مع الحارس
المرأة : وإذا طرقت بابك العتيق سيدة محترمة فماذا تفعل عندئذ ٍ ؟ هل
تتركها تقف خارج المنزل مثل شحاذة ؟
الرجل : كلا...كلا... لقد ترك لي مفتاحا ً احتياطيا ً...فإذا كنت ِ مصرة على الدخول عليك بالانتظار حتى أعثر عليها
المرأة : يبدو أنني وصلت في وقت غير مناسب ..سأذهب إلى أحد الفنادق
الرجل : تمهلي لحظة ...أنت ِ ضيفتي ...إياك أن تفعلي هذا
المرأة : لا أريد أن أسبب لك حرجا ً ....
الرجل : لا يوجد أي حرج ...سأبحث عن المفتاح ... وستدخلين وسنسهر
فلديّ بعض الشراب ...
المرأة : ربما يكون المكان ضيقا ً