مرايا
ضحك أخيرا عندما أبصر وجهه في مرآة جده .. ضحك حتى بدت نواجذه وظل يضحك ويضحك .. ينظر إلى صورته المنعكسة عليها ويضحك حتى تقطعت أنفاسه.. ومات من جديد.طوال حياته كان يكره النظر في المرايا .. في الصف الأول اشتكى زملاؤه منه .. لأنه يكسر مرايا براياتهم الجميلة .. ويرفض الاعتذار .. وبّخته (المدرسة) مرارا فلم يتوقف .. ظل يترصد براياتهم .. وفي غفلة منهم يسحقها بقدميه ويحيلها إلى قطع مبعثرة .. لا تصلح لشيء .. ضاقت به وحولته إلى الإخصائية الاجتماعية .. فاستدعت ولي أمره : - ابنك يعاني من مشكلة مع المرايا والبرايات؛ فما السبب في اعتقادك؟ - علمي .. علمك!! عاقبه أبوه .. لأنه أحرجه في المدرسة .. أرغمه على أن ينظر إلى وجهه في مرآة السيارة طوال الطريق .. وأن يبري خمسين قلما في جلسة واحدة .. حضنته أمه كفكفت دموعه وضعته في سريره حكت له حكاية الأميرة الجميلة والأقزام السبعة والمرآة المسحورة .. فقام من نومه مفزوعا يتصبب عرقا. ***
يحتفظ بصابونه الخاص وفرشاته بعيدا عن الآخرين .. وعندما يغتسل ويفرك أسنانه يتعمد أن يخفض رأسه كثيرا .. ويغوص بنصف جسده في الحوض .. كيلا تقع عيناه على مرآة الحمام . ***
كان دائما زبون المحل الأخير .. لا يأتيه إلا حينما يوشك على الإغلاق .. يبدأ عندما ينتهي الآخرون .. يصر على أن يسدل ستار كثيف على مرايا الجدار .. قبل أن يلج ويجلس ليتحرك المقص على رأسه .. ويتناثر شعره حول كرسي الحلاق . ***
عثروا في دفتر يومياته على كتابة مهترئة بخط اليد : " كم سيكون العالم رائعا دون مرايا .. اللعنة على من اخترعها .. لولاها لما تكبر آدمي على أخيه .. ولما اغتر أحد بجماله ووسامته .. فتصرف بنرجسية مع الآخرين .. ولما كره البعض الآخر النظر إلى وجهه فأحس بقبحه ودونيته أمام بقية الخلق .. لماذا يجب علينا أن ننظر إلى عيوب أنفسنا في المرآة .. وتحمل ذلك الشعور الأليم .. إن هذا لقاس .. قاس جدا" . ***
عندما كبر .. كبر معه كرهه لها .. وإلى كل ما يمت إلى الزجاج بصلة .. تمنى لو استطاع تحطيم كل مرايا العالم دفعة واحدة .. إزالتها من الوجود .. بنى بيته وحرص على أن يخلو تماما من المرايا بأنواعها .. واشترط على خطيبته أن تتخلى عن المرآة التي تحتفظ بها في حقيبة اليد .. وتقبل العيش معه في بيت دون زجاج .. فسخت الفتاة الخطبة .. بدعوى أنه غريب الأطوار ونصحته بأن يجد له طبيبا نفسيا حاذقا قالت له : - تعادي المرأة العالم لو شاءت ولا تعادي المرآة ، ما تطلبه محض جنون. وما أن تركته .. حتى تزوجها صاحب مصنع للزجاج. ***
قرأ ذات مرة لا يذكر أين أنّ (المرايا المعدنية قديمة العهد .. وقد انتشرت في أثينا وروما في التاريخ القديم .. أما المرايا الزجاجية فحديثة وقد ظهرت في بريطانيا سنة 1580م حين استعملتها لأول مرة الملكة إليزابيث الأولى ؛لكنها عادت فحظرت استعمال المرايا في القصور الملكية عندما تقدمت بها السن ، وأن أتباع الديانة الشنتوية في اليابان يقدسون إحدى المرايا الأثرية في بلادهم ويعتقدون أن آلهة الشمس قد نظرت في هذه المرآة عقب خلق الكون مباشرة ولذلك يقبل الملايين من أهل اليابان وغيرهم على زيارة هذه المرآة سنويا)(1) علّق قائلا: - لابد وأنها أصيبت بلعنة المرايا في خريف العمر .. وبعد فوات الأوان .. أما هم فكيف غفلوا عن دورها في مأساة التفجير النووي !!. ***
حلم في نومته الأخيرة أنه تمكّن من كل زجاج ومرايا المدينة .. في وقت واحد.. فصيرّها جذاذا .. ولم يترك وراءه سوى قطعا مكسورة .. وهكذا لم تنج من غضبته واجهات المراكز التجارية ودكاكين الحلاقة ومحلات صانعي المرايا والبراويز وكاميرات التصوير وأجهزة التلفاز وأجهزة ضبط السرعة وصالونات التجميل وأعمدة الإنارة وإشارات المرور ومصانع الزجاج ومعارض الأثاث المنزلي وغرف النوم ومرايا السيارات العاكسة والجانبية ومرايا الحمامات العامة وألعاب وبرايات الأطفال وأجهزة الكشف الطبي وغرف العمليات والمرايا المخبأة في غرف الاستجواب والتحقيق السريّة وفي حقائب النساء اليدوية إلخ .. أحالها جميعا - تحت ضربات فأسه القوية - إلى شظايا مبعثرة من ملايين القطع الصغيرة المتلألئة المضيئة مخلصا المدينة من شرورها وإلى أبد الآبدين. ***
فور تأكدهم من موته غطى أهله وذووه مرايا بيوتهم .. أسدلوا عليها الأقمشة والستائر الكثيفة .. منعوا نساءهم وصبيتهم من النظر فيها .. طوال أيام العزاء .. خافوا أن تقع روحه على إحدى المرايا الصقيلة .. فتجذب معها روحا حيّة من أرواح أهل البيت بمجرد انعكاس صورتهما عليها في ذات الوقت ؛لكنهم عندما سمعوا جلبة ليلتها وصوتا يقهقه ضاحكا من " العليّة " تذكروا أنهم نسوا - فيما نسوه- تغطية (الجامة) العتيقة ذات الحواشي المعدنية المنقوشة والتي ورثوها عن أحد جدودهم .. واحتفظوا بها مع الأغراض المرميّة هناك. تمت (1) حقائق موثقة وردت في دائرة معارف العربي.
|