حريم 79
جلست عدوم بنت حمد الفتاة العشرينية مع جمع من النساء مريض ..ترضع صغيرها حسون على المصطبة الخضراء داخل القاعة الضيقة لانتظار المريضات بمستشفى الرحمة.. بدت في نحافة قوامها وشحوبها..كطفلة صغيرة شاخت قبل الأوان..أخذت تهدهده على ركبتها المثنية فوق المصطبة بحركات متوترة سريعة دون أن يصدر عن فمها أي صوت..ثيابها ذات رتوق والعباءة ممزقة عند الحواشي والأكمام ..يستر قدمها نعلان من المطاط الأخضر ينحسر عن أصابع ذات أظافر طويلة متربة.. الجو كان حارا خانقا والزحام شديدا ..أخذ الطفل البائس هزيل الجسم يتشنج ويصرخ لاشتداد الحمى.. رافضا امتصاص صدرها الضامر ..وبين فينة وأخرى يتعالى عطاس ممتد..أو سعال مخنوق.. وتسمع آهة ألم ..أو نشيج بكاء.
- (ماله ولدش عدوم يزعق كاك كأنه ملدوغ) قالت نصرة حرمة "الهنقري" بن سعود الجالسة بلصقها في الدور..وهي تحرك عصا المشبة الملونة في هدوء ..اقتربت فأرخت يدها البضة على جبهته وما أن أحست بحرارته العالية على باطن كفها المزركشة بنقوش الحناء والمجللة (ببناجري) الذهب حتى صرخت بصوت حرصت أن يسمعه كل من في القاعة :
- ( وابوي..الوليد لابق نار ..وأنتي يالمجنونة جالسة فاكة ثمش .. خبري السستر لا.. تقدمش في الدور) لفتت صرختها تلك اهتمام الحريم اللائي كن حتى تلك اللحظة في شغل بأوجاعهن وأحاديثهن الجانبية عن الأمراض والأزواج و"الصغيرين الصغار"..فأخذن يشاركن في الحوار ..بينما بدا على وجه عدوم.. مزيج من علامات الحيرة والقلق والوجوم ..لم تنطق ببنت شفة ضمت إلى صدرها رضيعها المتقد حرارة..وقبلته في حنو . - ( هذي أم الصبيان داقتنه بعين أعوذ بالله من شرها..ما تشوفن الوليد كيف غادي صفر) قالت حبّوه زيانة من آخر صف النساء بصوت تخالطه بحة زكام والعرق يجري في تجاعيد وجهها المتغضن فحوقل الجمع في رهبة واستعاذ بالله من الجنية التي تترصد للرضع والصغار لإصابتهم بالمس والجنون..
(عجب مو تحسبن ؟!!) واصلت تفسيرها رغم التهاب الحلق و"البلاعيم".. وهي تحرك رأسها بانتشاء في "الليسو" البني الذي تلتحفه والمزين بفراشات صفراء صغيرة وشراشيب خيوط لونها من فضة وذهب (ما سمعتن كيف قتلت ثلاث " تتونين" في الحلة الشرقية ..الله ينجينا منها قولن آمين)
(آمين ...آمين) رددت النسوة في رهبة بينما واصلت المضمدة الآسيوية التي تتولى تنظيم الدخول على الطبيبة تحريك ملف تمسكه بيدها في انزعاج محاولة جلب بعض النسائم الباردة وهي تنظر بقرف لمروحة السقف التي تتحرك كسلحفاة معمرة .
-(بو يحصن أولاده بكتاب الله ما تصيبه مضرة الشياطين) ردت المعلمة كريمة مقرئة القرآن بعينين كالجمر وحبات المسبحة الذهبية تنسل من بين أصابعها في خفة..مغالبة صداعها الفظيع بعصابة حمراء لفتها حول الرأس.. الكل يرسل أبناءه إلى كتابها الواقع تحت سفح الجبل وتتقاضى عن الواحد خمسين بيسة يوميا غير أجر"التومينة" بختم المصحف الشريف - ( جالش وسمتيه ؟.. شي أمراض تراه ما يفيدها إلا الوسوم ) علقت عواش بنت الشايب جمعة بن عديم الحامل في شهرها الثالث ثم أضافت دون انتظار الجواب .. صدق أبو المثل : (وسمها قبل عن تضلع) -(وإنت حالموه جاية الدختر ؟!..سيري وسمي عمرش لا ) أخرستها المعلمة فانكمشت على نفسها مطلقة موجة سعال مفتعل لتداري الحرج الذي شعرت به ..ثم لاذت بالصمت مبتلعة حنقا مكتوما تبدى عندما عدلت بخشونة مبالغ فيها وضع عباءتها السوداء المسدلة من فوق الرأس تغطي بها بطنها البارز .
- (عن تكون فيه المحميقة ؟) تساءلت الخالة شيخوه بائعة "الخلاقين" بالصبر وهي تبعد ابنتها المحمومة حلوم ذات الظفيرتين المعقودتين والحرز الأزرق بهدوء عن محيط الطفل خوف العدوى..وقد دست صرتها النفيسة تحت الجناح.
-( ما أظني .. أشوف كيه) أجابت نصرة وهي تقرب عينيها من جلد الطفل ..مقلبة جسده بين يديها باحثة عن طفح أحمر .. زعق حسون عندما تجشأت في وجهه فجأة كمن كره أنفاسها المترعة برائحة الثوم الناتج عن "ملة البابلوه" التي احتستها كاملة في وجبة العشاء..احمر وجهها خجلا وسط ضحكات النساء الساخرة بينما اكفهر وجه عدوم وبان غضبها وهي تنتزع الطفل في حركة اشمئزاز نزقة متراجعة وبقوة جهة اليمين .. لتصيب بكوعها النحيف الحاد ظهر الأرملة النائمة زينب صاحبة الشعر الأبيض المتماوج و اللحاف المشبك والقرط الفضي الكبير المتدلي من الأنف كانت تغط في نوم عميق غير شاعرة بما يدور حولها فأفاقت فزعة في إعياء :
- (بسم اللـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه) صرخت متوجعة ثم وقفت واضعة يدها اليسرى على شاكلتها مميلة برأسها إلى الأمام والشرر يتطاير من حدقتيها وهي تلوح بيدها الحرة في حركة مائلة --- (أيـــــــــــه .. إنتي عورة ما تشوفي طعنتيني في ظهري .. وأنا وحدي مريضة) ساد القاعة الهدوء الذي يسبق العاصفة.. حل فيه دور مريضة أخرى فدخلت إلى غرفة المعاينة والكشف بإذن المضمدة.. بينما زحفت عدوم على المصطبة لتتقدم في الدور بدون أن تعي حتى كلمة واحدة مما قالته العجوز زينب والأصح أن يقال إنها لم تسمع ما قالته فقد كانت غارقة تماما في عالمها الخاص تنظر لما يدور حولها في وجوه النساء باستغراب وشك ..وعبثا تحاول إرضاع "الجاهل" الذي بات يتنفس بصعوبة .
- (ايه أنا أكلمش تو ..تسوي نفسش ما سامعة ولا ويش؟) عادت العجوز لهجومها الكاسح والبصاق يتطاير من فمها الأدرد ..وخيط من العرق الغزير يتفصد من جبهتها القمحية .
- (استهدي بالله يا زينب وجلسي في مكانش الحرمة ما قاصدة تعورش) حاولت المعلمة تهدئة الموقف.
-(أنا أتكلم معاها هي..إنتي " ملاه " لا تتدخلي بيناتنا أحسن لش) - (شرجة ومحصلة مهباط) همست حبوه زيانة لجارتها ورغم ذلك سمعتها العجوز الغاضبة فحولت إليها دفة الهجوم وقد توسطت القاعة تماما وعلا صوتها يرعد في المكان بثوبها الأبيض الواسع ذو المرايا الصغيرة وفتحة الجيب العميق الموشى بالزخارف النباتية في جزئه السفلي والذي يصدر رنينا كلما اصطكت العملات المعدنية الصغيرة فيه.
- (وإنت بعد موتقولي هاه.. كلكم تريدوني أسكت عن حقي ..أنا قسما بالله ما أخاف حد منكم).
- (بليس..كيب سايلنت شوية) نادت المضمدة بحزم وهي تدق الطاولة التي تجلس إليها محاولة ضبط الأمور.
- ( إبليس يوكلش.. وإنتي بعد واقفة معاهم) رفعت زينب أصبعها السبابة في وجه (السستر) وكان واضحا أن الحدث موشك على أن يتصاعد أكثر فقد علا زعيق النسوة اللائي استفزهن هجوم العجوز يحاولن زجرها وهي تكيل الصاع صاعين بزئير يصم الآذان وتداخل مع صيحات حسون المتقطعة التي باتت ضعيفة كحشرجة قط.. وبكاء أطفال آخرين أفزعتهم الصرخات واستبد بهم الخوف والحر والمرض ..لولا أن باب الطبيب فتح فجأة لتخرج منه نصرة وقد أنهت الكشف ممسكة في يدها بوصفة الدواء مؤذنة بحلول دور عدوم وولدها..ولجت مسرعة بجسد الرضيع الهامد في خطوات قوية متأرجحة أقرب للسقوط.. وكأنما تخشى أن يسبقها أحد فخف أوار المعركة أو هكذا بدا بعد غلق الباب ..وعندما جلست أخيرا على الكرسي المقابل لطاولة الدكتورة رأت على وجهها بوضوح ملامح تشي بالطيبة والسكون..وآثار وشم غائر على خدود سمر.. كانت الطبيبة جديدة في البلاد وفي المستشفى العتيق لكنها قديمة بما يكفي لتعتاد سوالف الحريم المريضات في قاعات الانتظار فلم تكترث للأمر ..سلمتها عدوم بطاقة التحصين المطوية فأخذت تتفحصها لهنيهات ثم ابتسمت ناظرة إلى الطفل الذي كان لحظتها قد كف تماما ونهائيا عن البكاء .
-( سلامات إن شاء الله.. شنوه فيه.. ابننا حسن ) ومع أن عدوم بنت حمد لم تسمع كعادتها أي شئ ..ولم تشعر سوى بتحرك شفتي الدكتورة ونظرات عينيها تتسع في رعب فقد عرفت على الفور أنها ورغم كونها جديرة بالثقة و مختلفة تماما عن الأخريات اللواتي قابلنها في الخارج لن تستطيع أبدا أن تعيد إليها فلذة كبدها حسون. .
|