طقس لطرد الموت
انحدرا يجرجران خطواتهما بصعوبة من على آخر هضبة تحت وطء الثقل الذي يقع فوق أكتافهما منذ زهاء ساعة، فأخذا يحسبان ألف حساب للخطوة الواحدة خشية أن تزل أقدامهما في درب مفروش بالانحدارات الحادة، كأنما يدفع بهما دفعاً نحو الهاوية، بعد سلسلة طويلة من الهضاب الصخرية التي تشكل مصطبة هائلة قطعاها وهما يحملانه مقتسمين فيما بينهما مشقة الحمل الذي يرزحان تحته بالتساوي، حيث كان يحكم توزيع الثقل بينهما طوال الطريق ميزان دقيق من الارتفاعات والانحدارات التي يتعرج فيها طريقهما صعوداً وهبوطاً إلى أن شارفا على نهاية تلك المصطبة، فأخذا ينحدران ببطء وهو يجثم على أكتافهما، فيُنقِّلان خطواتهما في حذر وبشكل محسوب مخافة السقوط، فظلا وقتاً طويلا يماطلان الهاوية مع الجسد المحمول، وهو ثاو بلا حراك ممدد بينهما كصرة مطوية مشوهة الأبعاد تلقي بثقلها في بلادة على الأكتاف.
كان هو ثالث الثلاثة، يعتلي أكتافهما وكأنه يستحثهما، يدفع بهما دفعاً، يدحرج خطواتهما، يهيب بهما لمشارفة الهاوية السحيقة في الأسفل، وبدا كأنه يمارس سلطة الأمر من أعماق موته، وإزاء ذلك ما عليهما سوى الطاعة العمياء التي تتحسس خطواتهما بحذر على حواف هذا المنحدر الصخري السحيق.
في الأسفل ودَّعا المنحدر بنوبة لهاث متصاعد بدداه شيئاً فشيئاً وهما يخطوان بحمولتهما في تمهل صوب القرية التي بدت على مرمى حجر منهما، فكان مقصدهما مسجد القرية مباشرة حيث أنزلا الميت بجانب حائطه، ومن ثم جلسا ليكافئا نفسيهما بعد عناء ومشقة الطريق باستراحة في نطاق الظل الضيق لحائط المسجد، بعد أن أخذت الشمس تقلصه رويداً رويداً وهي آخذة في التسلق إلى كبد السماء، لكن سرعان ما احتشد حولهم رجال القرية وعلى ملامحهم تنعكس عضة الموت الماثل أمامهم، وهو الأمر الذي اعتادوه وسكان القرى المحاذية للحائط الجبلي الهائل لسلسلة جبال الحجر الشرقي، تلك الملاصقة تماماً لسفوحه ومنحدراته الوعرة.
هبوط الرعيان المنقطعين في الذرى والمرتفعات الشاهقة للسلسلة الجبلية انقطاعا تاما مع مواشيهم، بميتاتهم كتقليد يشكل بالنسبة لهم ممارسة طقسية لطرد الموت من وسطهم، فما أن يفارق أحد منهم الحياة حتى يصبح مباشرة القربان الذي سيقام عليه هذا الطقس، ويتم نفيه إلى الأسفل في رحلة شاقة تستغرق نصف نهار بطوله، وتمضي في طريق شديد الانحدار يفيض بالخطورة في كل خطوة عبر السفوح والمنحدرات الجبلية الوعرة..
|