 |
قسم مجموعة قصصية 1 الكابتن حمدان |
الكابتن حمدان
هي حكايتي، ولن يحكيها غيري. ليس لأنِّي بطلها المُخلص. لا أدَّعي البُطولة والإخلاص، لكن كما قلتُ، سأحكيها لكَ لأنَّ غيري لن ينبسَ ببنتِ شفةٍ. سيطبِّلون، ويصفِّقون، ويقبِّلونكَ اللَّيلة، وهم لا يعلمون. تلكَ الأيَّام التي تُقرِّعني على ذنبٍ ربَّما اقترفته، وتخنقني بما أُوتيتْ حتَّى أتكلَّم الآن. لا أَمْلِكُ الكثير من الخيارات حين يتخيَّر الآخرون الصَّمت. حاولتُ الكتابة لكَ من زمن، فلم أستطع. لم أقدر. هذه الأمور لا تُكتب. ربَّما أرتكب خطًأ آخر اليوم حين أُخبركَ. من يدري؟ أنتَ لستَ من هنا، ولا تعرفُ شيئًا، لكن يتحتَّم عليكَ أنْ تعرف.
كيف كانتْ البداية؟ لا أعلم البداية، ولا أعلم إن كانتْ ثمَّة بداية مُهمَّة. وبداية من تكون؟ بدايتي؟ بدايتُه؟ بدايتُها؟ أم بدايتُهم؟ ربَّما تكون البداية في البيوت الضَّيقة التي شكَّلتْ ما يُسمَّى بحارتنا. ربَّما كانت البداية في وادي عبدالعظيم الذي فصلنا عن الشَّرق. ربَّما البداية في وادي حارة السَّيح الذي فصلنا عن الغرب. ربَّما البداية كانت في ملعبنا الشَّاسع.
كان آباؤنا يعملون في مناطق بعيدة جدًّا، وفي دول أخرى أحيانًا، وقلَّما يعودون إلاَّ ليومٍ أو يومين. لماذا لم ننتقل إلى المدنِ البعيدةِ معهم؟ لماذا كانت المدنُ الشَّائقةُ التي يعبرونها خطيرةً علينا؟ وما الذي يجعلنا نتمسَّكُ بمكانٍ لا يمثِّل مصدرَ رزقٍ؟ لا أدري، لكنَّ ذلك هيَّأ لنا عالمًا استثنائيًّا، ووهب لنا حُبَّ الكُرةِ بحرِّيَّةٍ لم تُمنح لغيرنا. لم يكن كلُّ شيءٍ على ما يرام، لكنَّ أشياء كثيرة كانت على ما يرام. كنَّا راضين.
لكنَّه أحاطَ بنا، حاصرنا بالجرَّافات، وأصابنا بالهلع. ربَّما ينبغي أنْ أتوقَّف قليلاً هنا. لن أتوقَّف عن الكلام، فالقصَّة ستُحكى لكَ بعد أنْ اتَّفقنا، لكن يجب أنْ أتحدَّث عن ما كان يجري قبل هذا. ربَّما عليَّ العودة إلى البداية المزعومة. الحياة كانت هناك على الملعب، وأصبحتِ الكُرةُ ولهًا لا قرين له. ربَّما لم ننشغل بغير كُرة القدم في حياتنا خصوصًا بعد ترحال آبائنا. ربَّما لم نستكشفْ حُبَّ أشياء أخرى في المدرسة أو الحياة. أعرفُ أنِّي لم آتِ بكَ هنا لأصف لكَ غرامنا باللعب. لم يكن، ولن يكون ذلك مُهمًّا لكَ. ما أستطيع قوله إنَّها كانت حياة ما عنتْ شيئًا لغيرنا عندما تكالبتْ الأحداث فيما بعد.
***
أمَّا من كان فينا، ويتكلَّم عنَّا، ويهتمُّ بنا فقد كان حمدان.
"أين أنتَ يا حمدان؟"، كنَّا نقول حين تشتدُّ الخطوب. الكابتن حمدان: الأب، حين تخلَّى بعض الآباء عنَّا، والأخ، لمن لم يكن له أخ. كان حمدان الصَّديقَ. حمدان كان كلَّ شيءٍ، وسيكون كلَّ شيءٍ شئنا أم أبينا.
كنَّا حقيقةً مُضحِكِين حين خطَّطنا لننتخب كابتنًا للفريق. كنتُ ويوسف مُضحِكَيْن حين اتَّفقنا فيما بيننا على أنْ أمنحه صوتي في الانتخاب. رشَّح أخي نفسه، ورُشِّح حمدان بإلحاحٍ من الشَّباب، وحصل على كلِّ الأصوات عدا صوتي وصوت أخي. أتذكَّر كيف رشقتني نظرات الأصدقاء المُستسخفة لتلك المناورةِ السَّخيفة حقًا حينما تَعْلم أنِّي أوهمتهم بترشيح حمدان. طأطأتُ رأسي، لكنَّه تداركَ بسرعةٍ، وأنقذني حينما أخبر الشَّباب أنَّه رشَّح يوسف نفسه، ولستُ الوحيد الذي رشَّحه!.
الكلُّ يعلم أنَّه لم يرشِّح أخي، ولم يرشِّح نفسه أيضًا، لكنَّه قال:"لستُ كابتنًا، يا أصحاب. عندما نصبح ناديًا، ويُدفع لي سأوافقُ أنْ أكون كذلك!".
أدركنا – أو أدركتُ على الأقلِّ– حين رفعتُ رأسي ونظرتُ إلى عينيه أنَّه كان كابتنًا حقًّا.
لا أتذكَّر مُطلقًا كم كان عمري حين بنينا الملعب، لكنَّني كنتُ أصغر من الجميع. شيَّدنا الملعب وسط الحارة. سرقنا، أو استولينا على خشبات العارضة من بيتٍ كان يُبنى حديثًا، ورفعنا القوائم، ونثرنا الإسمنت الأبيض على حواف الملعب. أمَّا طلال فقد اهتدى لفكرة مُبدعةٍ قلَّدتها ملاعب الحارات الأخرى فيما بعد، فقد أحضر شباك صيدٍ من قريتهم البعيدة، وحوَّلها إلى شباكِ المرمَيين. كنَّا نلعب كلَّ مساء من العصر إلى المغرب بحماسٍ يُشعله حمدان، وبنشاطٍ لم يكن معهودًا في غيره. كان الملعب يتحوَّل إلى شُعلةٍ متوهِّجةٍ لا تهدأ إلى المغرب بمجرَّد وجوده وكلماته القليلة التي كان يبثُّها فينا. كانت الأمور تسير هكذا: لعب كثير، ودراسة قليلة. الغريب في الأمر، وأنا أتذكَّر الآن، أنَّ حمدان لم يكن يدرس، أو يجتهد في دروسه، ولكنَّه اكتسب احترامًا مُجمعًا عليه من قِبل المعلِّمين، وآباء الحارة. الجميع كان يستمع إلى حمدان كصوتٍ للحكمة، لكنَّ أباه كان مختلفًا عن آبائنا. لم يكن يتحدَّث إلى أحدٍ أبدًا، كما كان حمدان لا يتحدَّث، ولا يحبُّ أنْ يُتَحدَّثَ عنه. كان حمدان بلا إخوةٍ.
لكن ربَّما نظرتنا كانت ناقصةً، إذ لم نكن نراه سوى من منظار الكُرةِ الذي كان مقرَّبًا فيه. استأنس حمدان الحمام الزَّاجل في حوش بيته لفترةٍ طويلةٍ، وأحاطهُ بشباكٍ حديديةٍ عتيدةٍ إلاَّ أنَّ ذلك لم يمنع وقوع تلك الحادثة التي تجنَّبتُ حضورها. العهدة على الرُّواة، وهم كثيرون. لم أكن هناك، لكنِّي كنتُ أعلم ما سيحدث. لا ندري كيف انفرج الشَّبك المحيط بالقفص من الأعلى، ليسمح لذلك القطِّ المشؤوم بالدُّخول والانقضاض على حمامات حمدان الزَّاجلة كلِّها. هو قطٌّ مشؤوم حقًّا حين انزلق في الدَّاخل، وعجز عن الخروج. لم يستطع أحد وصف عيني حمدان بدقَّةٍ لي حينما رأى القطَّ قابعًا في ذلك القفص، لكنَّهم قالوا إنَّهم سمعوا صراخًا صامتًا، والتمسوا ضجيجًا مرتعشًا فيهما، وانتفض رأسه حين سقطتْ على وجنتيه دمعات محترقة معدودة سارع إلى مسحها. دخل بيته، وأحضر قائمًا خشبيًّا، وحبلين قصيرين، وقطعةَ قماشٍ سوداءَ. افترسَ القطَّ المتراقص، وربطه بالحبلين بعد أنْ أسنده إلى القائم، ونقله إلى الخارج في مُنتصف الملعب. انتفض القطُّ بعنفٍ، وأصدر أصواتَ استعطافٍ واضحةً، والنَّاس تجمَّعتْ في الحارة، وهي ترى المشهد العجيب، لكنَّه رمقهم بنظرةٍ لم يستطع أحدهم وصفها أيضًا، ثم ارتختْ عيناه واكتسبتا هُدوء الحكماء: – لو سمحتم، إنَّ الأمرَ شخصيٌّ جدًّا.
قهقه بعضهم، ووجم آخرون، ولكن لم يفهم أحد شيئًا، إلاَّ أنَّه هرول إلى البيت، وخرج مُسرعًا، وهو يحمل بندقيَّةَ صيدٍ قديمةً ويتقدَّم بخطىً ثابتة نحو القطِّ المكبَّل، وعصبَ عينيهِ بقطعة القُماش السَّوداء، والنَّاس تُهلِّل، وتكبِّر، وتضحك، وتصمت، وتستعطف، وتهتف، وتلطم وجوهها، وتشعر بالجنون. وبنفس الخُطى الثَّابتة ابتعد عن القطِّ، وهو يعدُّ الخطوات، كما كان يفعل عند احتساب ضربة جزاء. توقَّف عند الخُطوة العاشرة واستدار باستعراضيَّةٍ ماهرةٍ تعلَّمها من التَّربية العسكريَّة، ورفع رأسه إلى السَّماء، وصمتَ الجميع، كما يبدو احترامًا لتلك اللَّحظة الشَّخصيَّة التي أخذها لنفسه وللقطِّ. صوَّب باتجِّاهه، وأخذ يضغط على الزِّناد، فانبثق سيل من الرَّصاص أخرس القطَّ إلى الأبد. لم يستطع أحد عدَّ تلك الرَّصاصات، إذ تباكتِ الأصوات، وتحشرجتِ الحناجر، والنَّاس تُهلِّل، وتكبِّر، وتضحك، وتصمت، وتستعطف، وتهتف، وتلطم وجوهها، وتشعر بالحزن. اتَّجه نحو القطِّ ببطءٍ، وصوَّب على رأسه، وهو يُطلق رصاصة الرَّحمة الأخيرة. خلع قبَّعته في حركةٍ عسكريَّةٍ مألوفةٍ، ومن ثم قال للجمع قبل أنْ يدخل البيت:"ادفنوه".
لا يتكلَّم النَّاس كثيرًا عن تلك الحادثة رغم أنَّها جديرة بالثَّرثرة. يبدو أنَّ تفاهمًا ضمنيًّا يتناقله النَّاس بالصَّمت، وإن لم يكن كذلك فما الذي يلجمُ أفواه العشرات من النَّاس عن بثِّ حادثةٍ مدويةٍ تقترب من الخرافة، ولا يمكن أنْ تحدث في مكانٍ آخر في البلاد دون أن يُشاع خبرها، بينما يتناقلون ما هو أتفه من ذلك؟ هل هو احترام لخصوصيَّة الكابتن حمدان، أم خوف منه؟ هم أنفسهم لا يعلمون. لم يصل إلى الشُّرطة خبر الإعدام ولا البُندقيَّة غير المرخَّصة، لكن يقال إنَّ حمدان قد اكتسب احترامه من هذه القصَّة التي لا تتناسب مع ما شهدنا له. إلاَّ أنَّهم يقولون أشياء كثيرة في الحارة، ولا يعلمون. حمدان يحمل سِمةً غامضةً تجعلكَ تتناقض مع نفسكَ تجاهه. صدِّقني، فالقصص وحدها فقط تصف حمدان، والكلمات تجهله.
فلنعد إلى البداية. عن ماذا كنتُ أتكلَّم؟ آهٍ.. عن الملعب، والكُرة. كُنَّا خصمًا لدودًا لحارتينا الجارتين. أمَّا حارة السَّيح فكانت منفصلةً عنَّا بالوادي الغربيِّ، وكانوا أعداء لنا، أنذالاً، كحارةِ عبد العظيم. أمَّا من عبدالعظيم، فلا تَحْضُرهُ ذاكرةٌ قريبةٌ، ولا يُعرفُ لِمَ سُمِّيتْ الحارة باسمه. وأما لماذا كنَّا متفوِّقين عليهم جميعًا، فلأنَّنا كنَّا نملك حمدان. لم نفزْ في كلِّ المباريات، لكن كسبنا في كلِّ مباراةٍ شيئًا جديدًا. لمْ انضم إلى الفريق إلى أنْ كبرتُ، وصرتُ أراقب، وأرحلُ مع الفريق، وأشجِّعه. كنتُ أُحْضِرُ الكراتِ الخارجةَ من الملعب في المباريات، خصوصًا حين يضيق الوقت علينا. آهٍ، وهل أنسى الكُرةَ الطَّائشةَ التي لطمتْ أنفي في مباراة النِّهائي مع حارة عبدالعظيم، وفي ملعبهم؟ بكيتُ، ونزفتُ كثيرًا. طالبَ حمدان بتعليقِ المباراةِ قليلاً ليتمَّ إيصالي إلى البيت، ولم أكن حينها لاعبًا. لكنَّ أولاد عبدالعظيم – وهذا ما نطلقه عليهم – أَصرُّوا على متابعة اللعب، وإلاَّ اعتُبر تعليقُ المباراةِ انسحابًا.
كيف تنسحبُ من المباراة النِّهائيَّة، وأنتَ فائزٌ لحظتها؟ كيف وأنتَ تلعب طوال العام من أجل هذه المباراة؟ كيف والمصاب ليس لاعبًا في الفريق أساسًا؟ لكنَّ حمدان لم يفكِّر كثيرًا، وقرَّر انسحاب الفريق، وخسرنا الكأس، ليحملوني إلى المستشفى، ويذهب إلى بيتنا، ويقول لأمِّي:
– خالتي، سيكون ابنكِ على ما يرام، ولا تقلقي عليه فهو رجل.
لا أخفي أنَّها ليستِ المرَّة الأولى التي كنتُ فيها سببًا لحادثةٍ مُسيئةٍ، بعد حادثة الانتخاب. كان معظمهم – بمن فيهم أنا – يتجرَّع مرارةَ هزيمةٍ ما انبغى تجرُّعها، ومن كأسٍ ضائعةٍ بسبب من لم يكن لاعبًا أساسًا. الكثير بكى بحرقةٍ على تلك الكأس، وحمدان لم يتكلَّم أبدًا، وما كلَّمه أحد عنها سوى بالعيون. لم يُوبِّخني أحد، لكنَّني ندمتُ.
***
أمَّا سنوات عمرنا التي أنفقناها بسخاءٍ على ذلك الملعب، وتلك الجروح والآلام التي تكبَّدناها، وحبَّات العَرق التي روينا بها عطش تلكَ الرِّمال الطَّاهرة، والمباريات الحافلة، والدُّموع، والابتسامات، والرُّضوض، والخسارات، والانتصارات، والشَّتائم، والتَّصالحات، وكلُّ شيءٍ.. فقد انتهى.
ملعبنا الكبير انتهى. تلك القوائم التي نُصبتْ، وبقيتْ شامخةً لعدَّة سنين، وكنَّا نُعيد ترميمها أُسقطتْ.
ألم أقُل لكَ إنه حاصرنا بالجرَّافات، وأصابنا بالهلع؟.
كيف تضيقُ الدُّنيا على تاجر مجوهراتٍ عريقٍ، وينتزع أرضًا بائدةً في منتصف حارةٍ أثريَّةٍ تحاصرها الوديان ويردمها الغُبار من كلِّ صوبٍ؟ كيف يروق له التَّسلُّل، بين هؤلاء الفقراء، ويشيِّد قصرًا بعلو منارةِ مسجدٍ، ويكشف فيه عن ستر بيوتهم؟.
– يا شباب، هذه أرضي، وغدًا سأحفرها. فلتبحثوا عن مكان آخر لتلعبوا فيه.
وقبل أنْ ينصرف باغتُه حمدان وجعله يلتفتُ نحوه حين ردَّ عليه:
– لماذا لا تبحثُ أنتَ عن مكان آخر تلعب فيه؟.
رمقَ حمدان بعينين شرستين، وربَّما هنا كانت البداية!.
***
وفعلاً أتى الجرَّاف المُخيف باكرًا وتثاقل نحو ملعبنا الكبير، وحمدان العنيد تصدَّى له، باسطًا ذراعيه نحو الأفق، واتَّفقنا معه على الوقوف في منتصف الملعب جميعًا، والصُّمود معًا، فإمَّا نحن، وإمَّا الجرَّاف، لكن سرعان ما تراجعنا، وبقي حمدان مُطمئنًّا، ولا يعبأ باقترابه منه وتحذير سائقه باقتلاعه. لكن نحن الذين تراجعنا، حذفنا الجرَّاف بالحصى والمقلاع، فتراجع الجرَّاف، وعاد بالشُّرطة. طلب حمدان منَّا الفرار قبيل وصولهم، واعتقاله.
يُقال إنَّ الدَّمعات انحدرتْ من عيني حمدان مرَّتين في حياته. كانت الثَّانيةُ منهما عندما رأى الحفرةَ الهائلةَ التي أُحدِثَت بعد خروجه من الحجز. كيف يُمكن أنْ يُحدثَ شرخًا أليمًا في جوف أرضكَ في يومين؟ وكيف يمكنهُ سحق تاريخٍ كاملٍ في أقل من ذلك؟ كيف يجتثُ جذور الذِّكريات المتشبِّثة بالأرض؟ ارتفعتْ قوائم البيت سريعًا، وصرنا نلعب فيما تبقَّى من أرضنا الشَّاسعة.
كانت لدى حمدان خطَّة انتقامٍ، فبمجرَّد ما لمعتْ أشعَّة الشَّمس في زجاج نوافذ البيت أسرعنا في تهشيمها بالحجارة، وبمجرَّد ما علَّقوا المصابيح في الغُرف الواسعة كسرناها. وبمجرَّد وصول صناديق البلاط قُمنا بتحطيمها، إلى أنْ ثار تاجر الذَّهب:
– سترون يا سفلة!.
جلب كلابًا تحرس قصره، وحُرَّاسًا من أجل حراسةِ الكلاب منَّا، كما قال حمدان. انتصبَ القصرُ كبيرًا جدًّا، وما عاد اللَّعبُ على أرضٍ مقسومةٍ، وَرَكْلُ الكُرةِ في جدار قصره يجُديان.
***
لم يكن لنا حلٌّ غير الوادي. الوادي الغربي كان واديًا غيرَ ذي زرعٍ، ولم يكن للكُرَة، فمن لعب على أرضٍ مستويةٍ لا يستطيع أنْ يلعب على رمل الوادي العميق. لا يمكنكَ تسديد الكُرة بقوَّة على رملٍ مرتفعٍ. لا يمكنكَ الجري ورئتاكَ تضيقان من اصطدام تيار الهواء بصدركَ. لا تستطيع المناورة بسلاسةٍ على تلكَ الرِّمال العَصيَّة والتي كانت عقرًا للأوساخ، وزجاجات السَّكارى المتكسِّرة وغير المتكسِّرة على حدٍّ سواءٍ، كما أنَّه، ولو أردنا نسيان تلك الحقيقة، فالمكان يبقى واديًا يمكن أنْ يقتلع الذِّكريات القادمة، قبل أنْ يقتلع الخشبات حين تنزلق الأمطار على الجبال ويتدفَّق. إلاَّ أنَّه لم يكن لنا حلٌّ غير الوادي، فلا أرض أخرى تسعنا. كم كان صعبًا بناءُ تلك القوائم اللَّعينة التي استعصى انتصابُها، فقد كانت تتهادى مع تيَّارات الهواء العنيفة، لكنَّ طلال اهتدى لنبش حفرٍ عميقةٍ في الأرض لِنَصُبَّ الإسمنت في جوفها قبل أنْ نثبِّت القوائم داخلها.
مازلتُ لا أدري كيف استطعنا التَّأقلم مع تلك الأرض الجديدة، لكنَّني على درايةٍ تامَّةٍ اليوم بأنَّنا لم نكن لنهزمَ كلَّ الحارات لولا وجودنا فيها، ولما حدث بعض ما حدث بسببها.
لم يرقْ لبرهوم الحاسد اللَّعين، سارق الدَّراجات الهوائيَّة، وعصابته وجودنا في الوادي، فَكَسَرَ قوائم ملعبنا في الوادي بحجَّة أنَّهُ جزء من حارة السَّيح، وليس من حارتنا، وهو يحرسُ حدودَ الحارةِ كما يحرسُ مرمى فريقها. لم يعلم أحد مدى صِحَّة تلك الأقاويل. كان برهوم ينهب الدَّراجات، ويصبغها مع عصابته باللون الأزرق الدَّاكن، ويستبدل إطاراتها. الجميع يعلم أنَّهُ يسرقها، لكن من يستطيع تقديم الحجَّة ضدَّه؟.
بكى الكثير منَّا على ما حدث لملعبنا الثَّاني، إذ إنَّنا لم نتقبَّل تَشرُّدنا من الملعب الأوَّل حتَّى يُسرق منَّا الملعب الثَّاني هكذا. لكنَّ حمدان عَرَضَ على برهوم لعبَ مباراةٍ حاسمةٍ، الفائز فيها يحصلُ على الملعبِ إلى الأبد.
ولعبنا! لكن من يستطيعُ هزيمةَ من يقاتلُ لأرضه؟.
كان حمدان يعرفُ أنَّنا سنفوزُ، وكان برهوم يظنُّ الفوزَ لنفسهِ حينما قَبـِلَ بالمباراةِ، ولو لم يكن حاسدًا بغيضًا لما حطَّمَ ملعبنا مرَّةً أخرى بعد هزيمته، إلاَّ أنَّ حمدان تحدَّاه بمعركةٍ جسديَّةٍ بينهما، في وسط الملعب، وأمام الأنظار، إنْ الأمرُ يتعلَّقُ بالقُوَّةٍ، والفَائزُ يحصلُ على الملعب إلى الأبد حقًّا هذه المرَّة. كان حمدان يعرفُ أنَّنا سنفوزُ، وكان برهوم يظنُّ الفوزَ لنفسه حينما قَبـِلَ بالمبارزة! وفي تلك المرَّة، حظينا بالملعب للأبد.
لم يكن برهوم سوى جبان سارق.
***
هذه قصَّة حمدان...
لكنَّكَ لا تزال محتارًا منه. شيءٌ ما يعتمل في صدركَ. تساوركَ الشُّكوك، وقد لا تصدِّق ما أخبرتُكَ عنه. لأنَّكَ لم تسمع هذه الحكاية من أحدٍ غيري، وكما أخبرتُكَ فلن يحكيها غيري.
أنتَ تتساءل لماذا لا ترى كل ما أخبرتُكَ عنه، ولماذا يبدو حمدان مخبولاً لا ينطق بكلمةٍ؟ لماذا يهيم حافيًا على الرِّمال الحارقة في هذا الصَّيف؟ ولماذا تتراقصُ عيناه بجنونٍ؟.
***
آهٍ.. للجبناء – وهم كثيرون – أساليبهم الخاصَّة في الانتقام من الشُّجعان. هذا ما يمكنني قوله. تعوَّد حمدان الجري في الوادي ليلاً، والأوغاد علموا بتحرُّكاته، وحاصروه بغتةً، وضربوه بعمودِ حديدٍ شجَّ رأسه، وحين أُغمي عليه، أمطروهُ بسيلٍ من اللَّكماتِ، ورفسوه، ثمَّ فرُّوا. ربَّما كانت الخطَّةُ قتله، لكنَّه فقد الوعي لشهورٍ، وارتجَّ دماغه، وما نطقَ بعدما أفاق، ويقولون إنَّ ذاكرته قد انسحقتْ تمامًا، وهل يعلمون ذلك حقًّا؟.
هل تعقَّبه تاجرُ الذَّهب؟ هل برهوم الذي بدأ في سرقةِ الدَّراجاتِ النَّاريَّةِ مُؤخَّرًا حاولَ الانتقامَ من هزائمه؟ هل كرهه أولاد عبدالعظيم لانتزاعنا الكأس منهم بعد كلِّ شيء؟ هل جميعهم اتَّفقوا على ذلك للخلاص منه؟.
بقي لي إخبارُكَ عن شيءٍ واحدٍ فحسب، وأريح ضميري في هذه اللَّيلة، ويبقى الأمر لكَ. عليَّ إخبارُكَ بعد أنْ عرفتَ كلَّ شيءٍ، وما سأخبرُكَ به لا يعرفه غيري، فأنتَ مازلتَ منزعجًا من قِصَّة القطِّ المعدوم. أليس كذلك؟ حمدان لم يعدم القطَّ المشؤوم لأنَّه انقضَّ على حماماته فحسب: لقد أعدمه لأنَّه قتل ريما!.
***
ريما، يا عزيزي، حمامته الزَّاجلة الحبيبة. ريما كانت حمامة عاديَّة للآخرين، وهي لم تكن كذلك لدى حمدان. كان يُدرِّبها سِرًّا بين جميع الحمامات في الظَّهيرة، وكان يُطعمها بسخاءٍ حين تعود إلى برجهِ. ذلك البُرج الذي بناه، وَسَاعَدْتُهُ بعد أنْ تعافى أنفي في بنائه على سطح بيتهم لعدَّة أسابيع بعد خسارة الكأس من أولاد عبدالعظيم. لم أستطع الوقوف هكذا مكتوف اليدين، وأقسمتُ له بأنَّني لن أتحرَّك من أمام بيته إنْ لم يجعلني أساعده في شيءٍ ما. أقتنينا لها خاتمًا معدنيًّا، ونحتنا عليه اسمها، ثم شيَّدنا البُرج ودرَّبناها لشهورٍ عديدةٍ.
ريما كانت تختفي، وتعود دائمًا. تذهب بشيءٍ وتعود بآخر. ريما كانت تنقل الرَّسائل بين حمدان وحبيبته. كان يبعث الرَّسائل قبيل العصر، وريما تطير بها، بينما كانت حبيبته تقرأ الرِّسالة في العصر، وتكتب ردًّا وقتها، وبعد صلاة المغرب، تعود ريما إلى بُرجها برسالةٍ منها قبيل عودته من الملعب. طوال تلك السَّنوات، راقبتُ حمدان يترقَّب بفرحٍ قدومَ رسالةٍ جديدةٍ.
أعلمُ ذلك، لأنِّي تَقفَّيتُ مسارها لشهرٍ كاملٍ، وعلمتُ تمامًا أين كانت تذهب، ومن أين تعود. لا أدري إن عَلِمَ بمعرفتي، لكنَّ ذلك ليس مُهمًّا اللَّيلة، والمهم أنْ تعلم أنتَ أنَّ حمدان كان يُحبُّ مُنى، وهي كانت تُحبُّه! نعم، يا ناصر. أنتَ تتزوَّج اللَّيلة من كانت حبيبةَ حمدان! أجل لقد أحبَّته عندما كان كاملاً.
لن أُحدِّثكَ عن حبِّهما الآن، لكن أريدكَ أنْ تذهب قبل عَقد القران إلى الملعب في الوادي الغربي، وسترى حمدان ساهمًا يتقلَّب على رمالهِ، ويحتضن كُرةً مُهترئةً، وسترى أنَّهم لم يعرفوا حمدان كما عرفتُه أنا. سترى أنَّ حمدان يتذكَّر، ويُدرك، وهم يطبِّلون، ويصفِّقون، ويقبِّلونكَ اللَّيلة. ستراهُ يبكي هناكَ، يا ناصر، وتعرف أنَّ حمدان قد بكى ثلاث مرَّاتٍ في حياته.
|
|
|
| | |