 |
قسم مجموعة قصصية 1 بعد الخامسة عشر |
بعد الخامسة عشر
بدأت زهور الأنوثة في التفتح شيئا فشيئا ، وابتدأت بتلات الورد في نثر عبيرها من تلك الشفاه المزهرة ، واكمل النهدان استدارتهما على حواف ذلك الصدر الناعم ، وسرت في خلايا ذلك الجسد شحنات متنافرة صنعت أحاسيس ورغبات جديدة لم يعهدها هذا الجسد الناحل من قبل .
وقفت أمام المرآة ، تأملت وجهها مليا ، ثم ارتفعت أناملها الرقيقة لتمسح على ذلك الخد الباهي ، وانسابت تخط على ذلك الهلام اللامع خطوطا حمراء سرعان ما تغطيها صفرة باهتة . نظرت إلى الأسفل .. زجاجات مربعة الشكل وقوارير مخروطية الأطراف .. وقناني كثيرة متنوعة تتناثر فوق ذلك الخشب البارد . فذلك أحمر قاني وهذا أزرق فاقع ، وثمة أسود قاتم وآخر كحلي نائم ، وأكواب من البنفسج ، ودوائر من الإسفنج .. وعلب وردية مبعثرة ..
مسحت بسبابتها الرقيقة برفق على شفتيها الورديتين ونظرت إلى الأسفل حيث الزجاجات فانفرجت بتلات الورد المطبق استعدادا للرسم والتلوين .
" لقد كبرت الآن .. لقد عبرت الخامسة عشر فلماذا التردد ولماذا الخوف ؟ لقد أصبحت مكتملة ويجب أن أغمر العالم بفيض أنوثتي .. سأصبغ هـذا وأطيل ذلك ، وأمسح هـذا وأرخي ذاك ، وسأفعـل .. وأسدل .. و ... "
" لقد أصبحت كبيرة ، ولابد أن يكون لدي أسراري وأشيائي الخاصة . ولقد كبرت .. وكبرت معي رغباتي وأفكاري .. وأساليب حياتي .. ونظرتي للناس .. والحياة بل وحتى أمي .
" لقد كبرت .. ولكن لا أحد يفهم ذلك ، ولا أحد يريد أن يفهمني .. فكلامي ليس غامضا وأنا لست فيلسوفة ، فأنا أكره الفلسفة والشعر والأدب ، وأمقت القراءة والكتابة .. بل وحتى المدرسة لأنها أكبر سجن لإنطلاقنا ، كما تضايقني تلك المعلمة البدينة التي توغر صدورنا الناهدة الصغيرة بكلمات النصح والإرشاد ، وأكره أخي الأكبر .. وأتضايق من أبي وأهرب من أمي ، ولا يعجبني الناس .. والعالم .. والحياة " .
رن جرس الهاتف فقفزت بخفة كلاعبة باليه ، وامتدت يدها الرقيقة لتختطف السماعة كالبرق ، فانتشرت فقاعات الإبتسامات في جو الغرفة البارد ، وفاحت الضحكات بشكل متململ متقطع ، ليعود بعدها الجو للبرود ويفتر الكلام ليبدو خافتا كأنه الهمس ، ثم إشارات بالإيجاب وأخرى تنم عن الخوف ، ودوائر ومربعات مبهمة غامضة ، وأسماء تتردد لسعاد وسلمى وأمل .. استمرت تلك المحادثة عشر دقائق من الزمن ، كان الجو خلالها متقلبا كأيام الصيف الدافئة . فتارة تتفتح ورود الفرح وتنفح الغرفة بعبيرها المبهج ، وبعد فاصل آخر تهتز أغصان الخوف ويخيم ظلام الخريف الممطر . واستمرت متقلبة في دورتها تلك إلى أن وصلت إلى نهايتها عندما انفرجت أساريرها بابتسامة رضى بريئة ، وارخت يدها النحيلة لتلم شمل جهاز الهاتف بسماعته . رن جرس الباب فطارت كعصفورة سابحة وفتحت الباب ليتلقف خدها الناعم قبلات اللقاء الباهي والتي ابدلت لون الخدود الأصفر الباهت إلى أحمر فاقع . ضمت بعد ذلك اللقاء الحار رفيقاتها بيديها وجذبتهن ليتبعنها الى غرفتها وهن ينثرن كل أنواع الضحكات ، وأغلقت الباب ليعود الصمت غلافا هانئا في تلك الصالة الهانئة . بدت دوائر الدهشة تكبر حول راسها عندما قامت سلمى فأغلقت باب الغرفة بالمفتاح فيما التفت حولها رفيقاتها الأخريات وتعابير التلهف تفيض من حركات أيديهن ، وعيونهن التي التصقت بكل نقطة من جسدها عندما قامت برفع فستانها الأزرق بيدها اليسرى حتى أوصلته إلى أعلى خصرها ، وأدخلت يدها اليمنى في متاهات جسدها ، لتخرج معها مربعا أسودا جعل دائرة عينها السوداء أكبر وأوسع فسالتها : ماهذا ؟ وبابتسامة باردة ردت عليها :
- إنه هدية خاصة . - ولماذا تخفينه هناك ؟ - أنت تعرفين الحال حتما ... فلا داعي لثرثرة الأسئلة .
وأسكتتها باشارة من يدها وضغطت على بضعة أرقام ، ففاح في الهواء المحيط عبير الترقب والتلهف وتصلبت الأعين على مربع زجاجي صغير تضمه أصابع سلمى النائمة على فخذها الأيمن .
إنتهت الرنة الأولى فتوقف الشهيق والزفير برهة من الزمن ، ومن ثم عادت الأصابع لتضغط على أزرار الهاتف مرة أخرى وثالثة ، وجلس الصمت في ركن الغرفة تاركا فسحة لأنامل ناعمة تلتف وتتشابك حول رفيقاتها ، ولسبابة رقيقة تنقش بطرفها الدقيق على نقطة التقاء الأسنان الأمامية باللثة ، واصبع آخر تمتصه شفاه لينة ..
عبرت ذرات الوقت ثقيلة طويلة ناثرة في جو الغرفة رائحة مقيتة كم تتمنى تلك الأنوف الصغيرة أن تنزاح لتفرج عن صوت الرنين المرتقب الذي تغلفه.
رفعت سلمى يدها اليمنى وضغطت على الأرقام ذاتها بتأكيد أقوى من ذي قبل ، ووضعته على أذنها برهة قصيرة حتى سمعت الرنين ثم ضغطت زرا واحدا وأسقطت يدها على فخذها ، وابتدأت حلقات دائرة الترقب في الدوران مرة أخرى ، وسكن هواء الغرفة ، ونامت الرموش السوداء ، وانخفظت الرؤوس وكأن النوم يدق على باب الغرفة ويداعب خصلات الشعر المزهرة .
وبعد فاصل نائم اهتزت يد سلمى واهتزت معه بقايا جسدها الناحل ، فسرت هزة خفيفة وموجة تردد باردة في قلوبهن المبتهجة .
تحدثت بهمس كفحيح الأفعى .. وفي كل دقيقة تمر عليها تنحني قليلا على حافة السرير حتى استلقت على ظهرها وارتخت جميع مفاصلها وذابت في وهم الكلمات المنسابة كأنها حرير معتق .
مرت اللحظات البريئة وجهاز الفرح تتلقفه القلوب والأيدي ، ويدور في جو الغرفة كأنه نيوترون تائه في حلقة تفاعل مبهمة ، وكلما علت ضحكة من فم إحداهن ارتفعت الأيدي لتضم تلك الشفاه التي لا تستطيع كتمان سر اللهفة للقاء المرتقب . وعاد بعدها إلى يدي سلمى التي ختمت كلامها الناعم بقبلة طويلة وهي ساهمة مغمضة العينين ، وقالت : " سنلاقيك بعد عشر دقائق في المكان المعتاد ".
أغلقت سلمى رسول الفرح وضمته إلى جانب نهدها الأيسر ، ثم أعادته إلى مخبأه الغريب ليستقر بصمت ، وتنهدت بفرح غامر وعينيها في عيني رفيقاتها اللاتي ضربن بأيديهن على أفخاذهن ووضعنها على الشفاه الرطبة ليكتمن بركان فرح أنثوي من الإنفجار ، وأحنين أجسادهن عليها لتلتقي الصدور في عناق دافئ ، والخدود اللامعة في قبلات مبتهجة .
اقتربت برفق من أذن نجمة اليسرى لتطلب منها الذهاب لأخذ الإذن من أمها لكي تذهب معهن الى حيث اللقاء ، لتكون حلقة في دائرة العذر المفترض للخروج ، وقالت لها : " أخبريها أننا سنذهب للمذا كرة في بيت أمل . وسنذهب جميعا الى منزل أمل ، ومن ثم سنخرج متجهين الى بيت سعاد وسنخبرهم نفس الحكاية لنذهب إلى بيت ليلى ومن ثم سنتجه الى حيث الموعد . وهكذا سندور في دائرة متشابكة لن يستطيع أحد أن يتتبع خيوطها . وبهذه الحيلة فاننا سنستطيع الخروج بدون أن يعـرف احد مكاننا الحقيقي . - أخاف ان تنكشف هذه الحيلة .
- وردت عليها بكل فرح وهي تضع سبابتها اليمنى في منتصف جمجمتها الصغيرة : - انني صديقتك الذكية .
وذهبت بتردد خائف لتقابل أمها في المطبخ لتخبرها برغبتها في الخروج مع صديقاتها حسب الخطة المرسومة . ومرت الثواني ثقيلة باردة بدون أن تلامس الحرير الملتهب ، والتلهف يملأ تلك الصدور الناهدة في انتظار الإذن المرتقب . وعندما اشارت برفضها ارتطمت الأذقان الصغيرة بالصدور ، وسكنت كل حركة في جزيئات المنزل عدا التفاف العيون وتنقلها بين بعضها البعض .
خيم ظلام كثيف من الصمت ، وضباب باهت من الحزن على تلك القلوب المبتهجة ، وذوى كل ذلك البريق الذي كان يشع من أعينهن ، وتجمدت أجسادهن عن الحراك عدا بعض العيون التي تغمض وتفتح حابسة دموعا صغيرة تكاد تفر من سجنها وتنساب على حرير الخدود الناعمة .
قالت نجمة بحروف يابسة : - ان أمي لا توافق عل ما أطلبه دائما . لقد قدر لي أن أعيش في عائلة مبهمة معقدة لا استطيع ان اتمتع بحريتي مثلكن . وردت سلمى على تلك اللمحة الدافئة بمثلها قائلة : - لا أريد أن أذهب بدونك فانت صديقتي الحبيبة .
ولم يكن هنالك من جواب مقابل سوى صمت محزن وسكون أثقل. اصطف طابور منكس الرأس على باب الغرفة وامتدت من مقدمته يد نحيلة ادارت مقبض الباب ثم توالت حلقات السلسلة في الخروج واحدة تلو الأخرى ، والصمت والحزن يتسابقان في التناثر في فراغات ذلك المنزل الساكن .
توقفت أرجل سلمى عن الحركة عندما اقتربت منهن أم نجمة قادمة لتوديعهن . وبكل ما تحمله في قلبها المرهف من انكسار سلمت عليها ومسحت بجسدها المرتجف على يطنها ، وقالت لها :
- عمتي . لماذا لا تسمحين لنجمة كي تأتي معنا ؟ - إن أباها شديد المعاملة ، ولا أريد أن أقع في دائرة اللوم . - ولكننا سنذهب للمذاكرة في بيت أمل ساعة واحدة ثم نعود .
وفتحت ذراعيها وارتمت بجسدها الدقيق على صدرها مرة أخرى ، وأرسلت رجائها المكسور لكي توافق على طلبها في السماح لها بمشاركتهن .
ومر فاصل صمت باهت جمدت كل جارحة في تلك الأجساد النابضة في انتظار جواب نهائي حاسم . وعندما خرجت آخر الحروف من شفتيها لتؤلف جملة الموافقة قفزن جميعا في الفراغ ، وتلقفن بعضهن الآخر بقبلات مبتهجة ، وتبادلن مع الأم وداعا هادئا لطيفا مشحونا بإبتسامات لذيذة انطلق بعدها المحبوس من معقلـه ...
|
|
|
| | |