Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/init.inc.php on line 55

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/init.inc.php on line 56

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 268

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 271

Deprecated: Function split() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 271

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/members.php on line 227

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29

Deprecated: Function ereg_replace() is deprecated in /home/alsultanah/public_html/story/functions.inc.php on line 29
المجموعات القصصية للسلطنة الأدبية
  
 

قسم قصص متنوعة
الحياة بدون عصافير
تاريخ الإضافة: 25/08/2009 رشح | إهداء

الحياة بدون عصافير

 

    ورأيتُني أعدو في الغابة بسرعة كبيرة .. أعدو وألهث، وخلفي أسمع طفلة تناديني : بابا .. بابا .. الجبس في رقبتي يمنعني من الالتفات للوراء أو الأعلى أو الأسفل .. أواصل الجري مصيخا لصوت الطفلة الذي يتحول فجأة إلى زئير لبوة  .. أحث الخطى فيتعالى الزئير .. أتعثر بحفرة كبيرة وأسقط فيها .. يسقط الجبس من الرقبة .. أرفع رأسي قليلا فأشاهد حبيبتي أعلى الحفرة تصوّب ناحيتي مسدّسا .. تعدُّ : واحد .. اثنان .. طاخ .

     قمتُ مفزوعا وأطلقتُ صرخة مدوية : عصافييير ..

     قالت أمي : لو أطعتَني البارحة وتعشيتَ قبل أن تنام لما اضطررتَ أن تحلم بالعصافير ..

     ما حدث هو أن الخشخشة القوية التي سببها فتح أمي للستارة تزامنتْ مع ضغط عصافير للزناد .. لكنني واثق يا دكتور أن الحلم لو استمر قليلا ما كانت عصافير لتقتلني .. ليس فقط لأن عينيها وهي تمسك بالمسدس كانتا تشعّان بالحب ، بل لأنها ـ في الواقع وليس في الأحلام ـ إنسانة مختلفة ، لا تنتمي للأرض وتفاهاتها ، امرأة من هديل أو زقزقة ، أصابعها تلك لم تخلق للضغط على الزناد بل لعزف مقطوعة في بيانو ، أو تضميد جرح في روح .. فردوسٌ من الرقة والحنان ، تسمعك كصديقة ، وتحنو عليك كأم .. إنها أمي يا دكتور .. كل وصفاتك ومهدئاتك لا تساوي شيئا أمام ابتسامة واحدة من عينيها .. عندما تبتسم عصافير تتفتح ألف وردة ، وتنفتح مليون نافذة للشمس ، وتعود الروح للأشياء والكائنات : العنادل تغني ، والبحر يضحك ، والجبال تتثاءب بانتشاء فيما تذرف الينابيع دموعا حلوة .. أما القمر فيتسع ويتسع حتى تضج به السماء .

      السماء تشبه عصافير يا دكتور لأنها بعيدة ولا يمكن الوصول إليها إلا في الأحلام .. وأحلامي باتت تتغذى على عصافير .. لا تكاد تمضي ليلة لا أراها فيها .. حلم الغابة هذا رأيتُه الليلة الماضية .. وقبلها بليلة رأيتُ حلم الكنز .. هل أتاك حديث الكنز يا دكتور ؟! .. رأيتُ فيما يرى النائم طفلتي نور تخرج من حفرة تحت الأرض وتناولني فأسا ثم تعود إلى حفرتها .. أخذتُ الفأس وطفقتُ أهوي به على الأرض بكل ما أوتيتُ من عنفوان .. وبينا أنا كذلك إذا بضحكات قادمة من بعيد كصلصلة الجرس .. رفعتُ رأسي فرأيت ثلاث جميلات يقتربن مني .. كانت الوسطى تضع على رأسها تاجا كما لو أنها ملكة ، وقد حدستُ أن الأخريين وصيفتاها : الأولى صامتة ، ومتجهمة ، وترشقني بنظرات مريبة تشي بأنها لا تحبني رغم أنها تحمل في يدها وردة ، والأخرى تحرك فمها صعودا وهبوطا كمن يمضع علكة ، وتبتسم ، رامقةً إياي بنظرات توحي بأنها لا تكرهني رغم أن ثمة مِنجَلاً في يدها ينظر إليّ .. وحين اقتربن أكثر اكتشفتُ أن الملكة ليست سوى عصافير .. سألتْني :

     ـ ماذا فعلتْ لك الأرض لتضربها ؟! .

     قلتُ :

     ـ أبحث عن كنز .

     أشارت بسبابتها إلى السماء وقالت :

     ـ الكنز هناااك ، إذا كنتَ تريده فاتبعني .

     ورفرفتْ بجناحيها اللذين نبتا لها فجأة وطارت مثل حمامة بينما عيناي تلاحقانها بذهول .. اقتربتْ المتجهمة وأخيراً نطقتْ ، ولكن بتهكم واضح

     ـ  تبحث عن كنز هاه ؟! .

     وضربتْني بالوردة على أنفي فجَدَعتْه .. أما المبتسمة فقد وضعتْ حد المنجل على عنقي كما لو أنها تريد أن تحصدني .. وبعد أن أحكمتْ قبضتَها على المقبض ، أغمضتْ عينيها وهمستْ كمن يرتل صلاة سرية :

     ـ حين تكون عاشقاً فانك تبدو رائعا .. سيلاحظون بريق عينيك ، وتلك الابتسامة التي لن تفارق شفتيك

     ثم طرْنَ كلتاهما وراء الملكة ، قبل أن يتسنى لي أن أسأل : من هم الذين سيلاحظون ؟!

    الحلم أفيون العاجز يا دكتور .. نحن نُصاب بالأحلام حين يكون متعذراً أن نُصاب بالحياة .. لكن الأحلام حياة أيضا ، وانْ زارتْنا أثناء التمرن اليومي على الموت .. بل وحياة أجمل بكثير من الحياة الحقيقية .. حياة كما نحب ونشتهي .. أحب الأحلام وتحبني يا دكتور .. وأحب الحياة ولا تحبني رغم أنني "على قيدها" منذ ولادتي ولم أفكر مجرد التفكير في كسر هذا القيد .. يبدو أن ثمة من وشى بي عندها فأخذتْ عني فكرة خاطئة .. وعندما تسيء الحياة فهمك فسوف لن تنال منها إلا الاستهزاء والسخرية .. بتُّ أحفظها جيدا هذه الشمطاء الماكرة .. عندما يبدأ الملل بالتسلل إليها وتخامرها رغبة في التسلية ترمي لي بفرح صغير كما تُرمَى عظْمة لكلب .. وما إنْ يبدأ الكلب بمصمصة العظْمة حتى تنزعها منه بقوة ، كاسرةً بعض أسنانه بينما تتقلب هي على قفاها من الضحك .. حين رمتْ لي بعصافير لم أكُ بحاجة إلى كبير ذكاء لأُدرك أن في الأمر شَرَكاً ، ولكنّ عصافير ليست عظْمة صغيرة .. إنها وليمة عشق تكفي لإشباعي مدى الحياة والموت .. ألا تستحق المجازفة يا دكتور ؟ .. أم أن الأرمل ليس من حقه أن يعيش ويفرح ؟! .

     أنت طبعاً تعرف أنني أرمل ، ولكنك لا تعرف كيف ماتت زوجتي .. حادث سير عادي يا دكتور : سيارة تنحرف عن مسارها فتصطدم بعمود إنارة و .... انتهت الحكاية .. بعد أن توقفت السيارة وهدأتْ الفرائص المرتعدة نظرتْ إليَّ زوجتي بهدوء وقالت :

     ـ أريد أن أعترف لك بشيء قبل أن أموت : طفلتُنا التي ماتت لم تسقط من الطابق الرابع لوحدها كما هو معروف للجميع ، بل أنا التي دفعتُها من الشُرْفة .

      ثم صمتتْ ، رغم أن عينيها بقيتا مفتوحتين ، وفمها أيضا .. لا أدري أية بلادة استعمرتْني لحظتها .. لم أحزن لأنها ماتت ، ولا لاكتشافي الوقائع الجديدة في وفاة طفلتي .. لا بد أنها هيبة الموت .. أنت تعرف أن الموت إمبراطور رهيب .. عندما يحضر يخرس الجميع ، ولا يجرؤون على فعل أو قول أي شيء .. فقط  يحملقون في الفراغ كالبُلَهاء .. هل تريد أن تضحك يا دكتور ؟! .. الحادث كان بسيطا للغاية ، لدرجة أنْ لا أحد منا ، لا أنا ولا زوجتي ، أُصيبَ بخدش واحد ، ومع هذا ماتت ، هكذا بكل بساطة .. ماذا يعني هذا ؟! .. أن الموت سهل جدا .. أسهل من شرب كوب شاي حليب بالزنجبيل في مقهى شاطئ الأنس .. أسهل شيء في الحياة هو الموت ، ولفرط سهولته فانه يتكرر كثيرا .. أنا مثلا متُّ مئات المرات .. الفرق هو أنني لم أصل بعد إلى ميتتي الأخيرة .. لكن زوجتي فعلتْ .. اقترفتْ موتها الأخير دون أن تجيب عن السؤال الذي يمزقني إلى اليوم: هل قتلتْ نور عمدا، أم أنها دفعتْها بالخطأ ؟! .

     الغريب يا دكتور أن عصافير لم تمتْ داخلي رغم مرور كل هذه السنوات على اختفائها .. ما زلتُ أرتطم بها في تفاصيلي اليومية : أنظر إلى المرآة فأراها تنظر إليَّ بعينين ضاحكتين .. أفتح الخزانة فأشاهدها معلّقة مع الملابس .. أدخل الحمّام فتخرج لي من معجون الأسنان .. وحين أدير جهاز التسجيل أسمعها تغني بصوت شجي كأنه ترجيع كمانٍ حزين : " لمني بشوق واحضني ، بعادك عني بعثرني "  .. أظن أن الأمر يتعلق بي أكثر مما يتعلق بها .. فحين ظهرتْ في حياتي قررتُ لسببٍ ما لا أعلمه أن أحصر كل رهاناتي عليها .. كانت في نظري فرساً لا يمكن أن يُغلب .. أو قل إنها كانت التعريف المجسّد للسعادة لرجل كان يسمع عن هذا الكائن الهلامي دون أن يراه .. كانت السعادة تتدلى أمامي كتفاحة ناضجة وما علي إلا أن أقطفها .. وكنتُ أتلكّأ في القطف .. أتدري لماذا ؟ .. شيء ما داخلي كان يصرخُ : لا تفعل ، لا تدعها تصل إلى ذروتها وإلا ستنتهي .. ثمة من أخبرني ذات مرة بأن السعادة ذعر لا يخشاه أحد ، ولكنني كنتُ أخشى هذا الذعر حد الرعب .. قلتُ لعصافير وهي تسلمُني هدية ما عدتُ أذكر ما مناسبتُها :

     ـ أنا أسعد مخلوق الآن ، وهذا ما يرعبُني ..

     وقبل أن تندهش أخبرتُها عن حاستي السادسة : حاسة الفقد ، تلك التي تعودتْ أن ترافقني كظلي أينما يممتُ .. وأظنني لهذا السبب طلبتُ منها عندما سألتْني عن نوع الهدية التي أُريد ، أن تجلب ذكرى منها لا تفارقني طوال اليوم .. فكان أنْ أهدتْني ميدالية مفاتيح منقوشاً اسمي على أحد وجهيها واسمها على الوجه الآخر .. هكذا هي عصافير .. لا تملك إلا أن تحبها رغم أنفك .. دون حتى أن تسأل : لماذا؟ ، فالحقائق البسيطة هي الأصعب دائما على الفهم .. نعم يا دكتور .. أحببتها منذ الأزل .. قبل النظرة الأولى ، وقبل اللقاء الأول .. أتدري أين كان اللقاء الأول ؟ .. في قطار مجنون .. كان الوقت صباحا ربيعيا مشبّعا بالرذاذ .. وكان القطار يسير بسرعة لدرجة أن الأشجار كانت تبدو من النافذة تهرب إلى الوراء .. ولا أدري أية صدفة جعلتْ مقعدينا متقابلين .. أنا عموما لا أؤمن بالصُدَف ومازلتُ أؤكد أن العجوز الماكرة هي من دبّرتْ كل هذا .. كانت عصافير تبدو وحيدة وقلقة وهي تحملق في سقف القطار .. ما إنْ رأيتُها حتى بدأت العصافير داخلي تزقزق وتزقزق .. وأظنك عرفتَ الآن لماذا أسميتُها عصافير .. داهمني ساعتها شعور أنني أجلس أمام قطعة من الجنة سقطتْ على الأرض .. ثمة مغناطيس عجيب جعل عينيّ تتشبثان بها كما يتشبث الغريق بآخر قشة ، وعندما كانت تلاحظ نظراتي كانت تلتقط كتابا موضوعاً بجانبها وتقلّب صفحاته بسرعة وارتباك .. هل أخبرك بشيء أيضا ؟ .. أنا رأيتُ هذه المرأة من قبل في مكانٍ ما وزمانٍ ما .. هكذا شعرتُ .. حككتُ جبهتي كثيرا لأتذكّر ، وحين فشلتُ قررتُ أن أسألها:

     ـ أين رأيتُكِ من قبل أيتها الآنسة ؟

     ـ في الحلم

     يمكنك اعتباره صدّاً متوقعا لمتطفل غبي لا يجيد فن بدء الحوار مع الفتيات الجميلات .. ولكن ، حين ستعود لي الذاكرة فيما بعد سأكتشف أنها لم تقل إلا صدقاً .. فقد رأيتُها في الحلم كما قالت .. كان ذلك قبل سنوات .. تحديداً قبل وفاة زوجتي بشهر ، وبعد وفاة نور بشهرين .. كنت وزوجتي في رحلة استجمام بين أحضان الطبيعة .. كانت رحلةً للنسيان ، مصالحةً للحياة التي هجرناها بسبب الموت .. الموت الذي سرق منا فلذة كبدينا .. وبينما نحن نهبط بحذر من منعرجات شلال صخري انزلق حذائي الرياضي بفعل المياه فتدحرجتُ إلى أسفل الشلال .. كانت النتيجة شرخاً أحمر على ظهر يدي اليسرى ، وضحكةً بيضاء على شفاه زوجتي التي لم تتمالك نفسها بسبب شر البلية الذي يُضحِك .. فقد بدا مشهد سقوطي وكأنه منتزع من أحد الأفلام الكوميدية .. وكان سيُسعدني أنني أضحكتُها لولا امرأة عجوز لاحظنا أنها كانت ترمقنا من بعيد وتهز رأسها بشكل غريب .. اقتربنا منها فعرفنا أنها عرافة .. قالت بوجه عابس مكفهر :

     ـ إن ضحك الزوجة في حال سيلان دم من الزوج نذير شؤم .

      كان طبيعياً أن تُصاب زوجتي بالهلع ، فهي تؤمن بكل ما يخرج من أفواه العرافات وقارئات الفناجين وضاربات الودع ، وتتعامل معه بشيء من القداسة .. حاولت تلطيفاً للأجواء المشحونة أن أتظارف ، فقلتُ موجهاً كلامي للعرافة :

     ـ لا عليك .. بعد أربعة أيام فقط سيسيل دمها ، وأعدكِ ألا أوفر ضحكي .

     بدا عليها الامتعاض ، ربما لأنها أحست أنني لا أولي مواهبها في التلصص على الغيب الاحترام الكافي .. لكن زوجتي أعادت إليها الثقة بنفسها حين سألتها :

       ـ بمَ تنصحينَ يا عمة ؟

قالت العمة :

       ـ قبل خلودكما للنوم هذه الليلة يجب أن تشربا شيئا من نفس الكأس ، على أن يُضمِر كلٌّ منكما أثناء الشرب أن يرى الآخر في الحلم ، فإذا ما حدث هذا الأمر فان كل شيء سيكون على ما يرام

وقبل أن تغادر التفتتْ إلينا وأضافت بنظرة ذات مغزى :

     ـ طبعا أنتما لستما بحاجة لأذكّركما بأن المشروب لا بد أن يكون حلالا

      في المساء ، شربنا عصير برتقال "حلالا" من نفس الكأس .. ونمنا

      في الصباح ، أيقظتْني زوجتي بفرح لتخبرني أنها رأتني آكل سمكاً مشويا على الشاطئ وأُلقمها منه بيدي ، فكان أنْ أخبرتُها أنني رأيتُني أمشي بحذر بهلوان  فوق حبل طويل ممتد بين ناطحتي سحاب ، وقبل أن أصل إلى نهايته بخطوة سقطتُ لتتلقّفني هي في حضنها .. ولقد سعدتْ زوجتي كثيرا بحلمي ، أتدري لماذا ؟ .. لأنني لم أخبرها أن التي تلقَّفتني امرأة أخرى ، أجمل منها بكثير .. وجهها ملائكي تشعر بمجرد رؤيته بأنك على وشك الانمحاء من الوجود .. شعرها طويلٌ طويل ، يصلح للتشبث به في الأعاصير .. عيناها سحابتان تعِدان بفرح غزير يهطل على القلب .. أما شَفَتُها الحمراء من غير سوء فهي أسهل طريقة للسفر للأقمار البعيدة .. كان حضنها دافئا ، وكانت تناغيني كطفل وتقول : كدتَ أن تموت يا بابا .. آهٍ ما ألذ كلمة بابا حين تخرج من شفتيها .. أتدري من هي هذه المرأة يا دكتور ؟ .. إنها عصافير ، تلك الوحمة الجميلة في وجه الحياة القبيح .. امرأة القطار إن شئتَ أن تختصر الوصف .. هل رأيتَ من قبل رجلاً وامرأة عاشا حياة بأكملها في قطار ؟! .. اللقاء الأول واللقاء الأخير وما بينهما من أمنيات وعشق وجنون كلُّها كانت في القطار الذي كنا نستقلّه مع كل مطلع شمس متوجهين إلى عملينا : أنا إلى مؤسسة الحديد والصلب ، وهي إلى مصنع الزجاج ..كانت تسبقني بمحطة .. ويحْدُثُ أن أتشاجر مع راكب أو راكبة يرفضان أن يتنازلا لي عن المقعد المقابل لها ، ولكن مع مرور الأيام أصبح كل مَنْ بالقطار يعلمون أن ذينك المقعدين محجوزان لعاشقين يثرثران طوال الرحلة ، وفي كل شيء .. كنا نتنقّل برشاقة من العام إلى الخاص ، ومن الخاص إلى الأشد خصوصية .. حدثتُها عن ليالي الصقيع والوحدة .. عن فراشات الروح التي تروح ولا تجيء .. عن عيني طفلتي وأنف زوجتي .. عن الشعر الأبيض الذي بدأ يغزو رأسي ولحيتي .. عن الأسمال التي أنفق الساعات في انتقائها ثم أكتشف أنها ليست على مقاسي .. عن قلبي الذي أوشك على الانطفاء من فرط ما أضاء .. وحدثتني هي عن حضن أمها الذي لم تجد وسادة أنعم منه .. وعن شقيقها المسافر الذي تنتظر أوبته بفارغ الصبر .. وعن شقاوة طفل شقيقتها الذي أهداها أحاسيس الأمومة قبل الأوان .. وعن الزجاج المتناثر في المصنع واضطرارها للتعامل معه لكي تعيش .. وطبعا لم تنسَ أن تخبرني أن العرافة نفسها التي طلبت مني وزوجتي أن نحلم ببعضنا البعض زارتها في الليلة ذاتها وطلبت منها أن تشرب عصير برتقال قبل أن تنام .. وأنها رأتني في المنام في تلك الليلة أسبح في نهر أبيض منتشيا وأشير لها بيدي أنْ تعالي .

     هكذا كان القطار شاهد عدل على أجمل اللحظات التي عشتُها مع عصافير .. وكانت الأيام تمر وأنا في سكرة الفرح بهذه المرأة التي جعلتْ لحياتي معنى وهدفا .. إلى أن وجدتُني ذات صباح أقول لها :

     ـ ألا تلاحظين أننا بعد سنتين من العشق ما زلنا في القطار .. ما رأيك أن ....

     وقبل أن أكمل قاطعتْني بمنتهى الصرامة :

     ـ  مستحيل

     ووسط دهشتي قالت إن العرافة أخبرتْها أن القطار هو المكان الذي اختارته الأقدار لنا ، وأنه إذا ما حاول أيٌّ منا رؤية الآخر خارج هذا القطار فسيكون عقابه الزج به في دوامة من الحنين ، وللأبد .

    ولأنها كانت تتكلم بثقة مطلقة وإيمان راسخ فقد أدركتُ أن النقاش معها سيكون غير ذي جدوى ، ولكنني أضمرتُ داخلي ألا أستسلم وأدع حياتي ومصيري رهناً لخزعبلات عجوز شمطاء .. وذات يوم ، وبعد أن نزلتْ في محطتها تبعتُها .. مشيتُ وراءها دون أن تدري .. مشيتْ فمشيتُ .. أسرعتْ فأسرعتُ .. أبطأتْ فأبطأتُ .. انحرفتْ يمينا فانحرفتُ .. اتجهتْ شمالا فاتجهتُ .. توقفتْ فتوقفتُ .. ناديتُها من خلفها : عصافير .. التفتتْ .. وحين رأتْني شهقتْ شهقة مازلتُ أذكرها حتى هذه اللحظة .. شهقتْ وأطلقتْ لساقيها الريح .. ركضتْ فركضتُ .. زداتْ سرعتها فزدتْ .. ولكنها دخلتْ فجأة في الزحام فأضعتُها .

     الغد كان يوما استثنائيا بكل المقاييس ، فهو من جهة أول أيام الربيع ، وهو من جهة ثانية عيد ميلاد عصافير .. لم يكن لدي مال لأشتري لها خاتم ألماس فاكتفيتُ بوردة حمراء قطفتُها من حديقة بيتي قبل أن أخرج في الصباح الباكر .. وحين صعدتُ إلى القطار فوجئتُ بأنها غير موجودة .. سألتُ عنها الركاب فلم يفيدوني بشيء .. استنتجتُ أنها مريضة ، فذلك لم يكن يوم إجازتها الأسبوعية ، كما أننا اتفقنا منذ أسبوع فات أن نحتفل بعيد ميلادها في القطار .. لا أستطيع أن أصف لك شعوري ذلك اليوم يا دكتور .. لأول مرة أشعر أنني يتيم ، وأنني أسير بلا طريق ولا بوصلة .. كان يوما ثقيلا لدرجة أنني تمنيتُ أن يكون بمقدوري أن أدعس زراً لأمسحه من الوجود وأدخل في اليوم الذي يليه .. ولكنها لم تأتِ في الذي يليه ، ولا الذي يلي الذي يليه .. وحين سألتُ عنها في المصنع قالوا إنها تركتْ العمل بدون سابق إنذار مما اضطرهم إلى فصلها .. ومنذُ ذلك اليوم يا دكتور ، ذلك اليوم البعيد الذي مضى عليه سنوات ، وأنا أخرج من بيتي كل صباح حاملا في يدي وردة حمراء وأستقل القطار ( حتى بعد أن استقلتُ من عملي ) على أمل أن أرى عصافير ، ولكنها لا تأتي .. أنا حزين يا دكتور ومتعب ، وما عدتُ أقوى على مواصلة الثرثرة .. وإني لأعفيك من الاتفاق الذي بيننا .. فهيا ، اخرج من صمتك .. قل شيئا .

 




قصص متنوعة

العزاء
أقول وقد ماتتْ بقلبي ...
الصابونة
الحياة بدون عصافير

الحياة بدون عصافير
العزاء
أقول وقد ماتتْ بقلبي ...
الصابونة

الشعراء الدواوين القصائد

Powered by: kahf diwan Version 2.1.0 Copyright ©1999-2025 www.alkahf.net