كلما نظر إلي الميدان عبر
شاشات التليفزيون والقنوات الفضائية يسأل نفسه : أليس نفس الميدان الذي سار فيه
مئات المرات !؟ ما الذي تغير فيه !؟ .
بعد صراعٍ مريرٍ مع
نفسه قرر النزول إلي الميدان ، وفي اللحظة التي قرر فيها النزول تغير وجه الدنيا
داخله! أخذ يحدث نفسه بما سيفعله وما لن يفعله وأين سيذهب في الميدان ومن أين سيبدا!؟ هل من مسجد عمر مكرم؟ أم من أمام أحد
المنصات ؟ شعر وكأنه في دوامة كبيرة من الأسئلة والاستفسارات .. ومن شدة إرهاقه
فكر في التراجع عن قراره بنزوله إلي الميدان!.
ظن أنه بالتفكير في التراجع عن النزول سيهدأ
قليلا فاذا به يزداد توتراً وحيرة!! تكاثرت الأسئلة وتناسلت فألقي بنفسه علي سريره وهو يمسك برأسه ويتساءل : لماذا
تلك الحالة العجيبة إذا قرر النزول وإذا فكر في التراجع! ؟ لم يعرف الآخرون بعد فماذا لو عرفوا ! ؟.
أخبر أسرته
أنه سينزل الميدان في الصباح ، قالها ببساطة شديدة ولكنهم لم يستقبلوها
بنفس البساطة! علت وجوههم الدهشة وانهالت عليه الأسئلة من كل حدب وصوب!! هل اتصل
بك أحد أو اتصلت بأحد!؟ هل تريد أن تموت هناك تحت الأقدام!؟ ماذا لو أطلقوا الرصاص
عليكم!؟ من منا سيخرج ليبحث عنك!؟ ماذا ستضيفللواقفين هناك!؟ هل حدث شيء في عقلك!؟ هل جننت!؟ هل وهل وهل.. ولكنه أخبرهم أنه اتخذ قراره وسينزل غداً إلي الميدان.
كانوا ينظرون إليه نظرات تتباين بين الإشفاق
والحيرة والإعجاب الدفين!كان مؤشر المشاعر المتناقضة والانفعالات المتباينة يتأرجح
بين أقصي اليمين وأقصي اليسار! حتي نظراتهم تباينت بين نظرات الوداع الأخير
ونظرات الإجلال والإكبار !.
دخل سريره لينام سويعات قليلة فهرب منه النوم
ولم يجده ! ولكنه عنف نفسه بأن الغد سيكون يوما طويلاً وشاقاً فعليه أن ينام ، واستجابت
نفسه الحائرة لرغبته فأخلد إلي النوم ، ثم نهض مبكراً وتوضأ ونزل لصلاة الفجر
كعادته في مسجد الحي ، وعندما عاد من صلاته حاول أن ينام مرة ثانية ولكنه تقلب ذات
اليمين وذات الشمال ولم يذق طعم النوم ! لمح شعاع شمس اليوم الجديد يولد ببطء عبر
زجاج نافذته، فنهض من سريره واتجه إلي الحمام وأخذ دشا باردا كي
لا يصاب بنزلة برد وقرأ قرآنه اليومي وتناول إفطاره واقفاً ثم ارتدي ملابسه ونزل وهو يتمتم بكلمات وأدعية لرب
العالمين.
كلما اقترب مترو الأنفاق من ميدان التحرير
ازدادت ضربات قلبه سرعةً وقوة !وهو يتعجب : لماذا كل هذا!؟ لقد مشيت في هذا
الميدان مئات المرات فما الذي تغير الآن!؟ توقف المترو وتسارعت أنفاسه وهو يصعد السلم
متجهاً خارج محطة المترو استوقفه بعض الشباب
يطلبون منه إبراز تحقيق
شخصيته وبعد خطوات قليلة فتشه البعض
تفتيشا ذاتيا وهو ينفذ بلا تفكير بلا استفسار! لم يسألهم عن شخصياتهم بل بدا
مسروراً لهذا الإجراء الذي يستنكره علي رجال الشرطة والأمن! شوقه لدخوله الميدان
سيطر علي مشاعره فلم يعد يفكر في شيء إلا في الميدان!.
عندما صعد ووقف في الميدان وجد عالما مختلفا ! يا الله ! إنه ليس الميدان الذي يعرفه منذ طفولته !إن الروح التي تسري في جسده
ليست تلك الروح التي سارت هنا قبل الآن! تلك الجماهير المحتشدة! تلك الحناجر
القوية التي تهز الجبال الراسيات! نظر إلي مسجد عمر مكرم وخطا نحوه فلم يري مسجداً
بل رأي بشراً !لم يدخل المسجد ولم يستطع ! لمح شابا مبللاً بالماء فسأله فأجابه
أنه منذ ساعةٍ كاملة سعي لدخول المسجد ! وأردف قائلا : إنك لن تتمكن من الدخول
وقبل أن يسأله عن السبب بادره الآخر قائلا : عليك أن تبحث عن مسجد آخر خارج
الميدان!.
تجول في الميدان ليري البشر بوجوه غير الوجوه
التي يراها خارج الميدان! لم يسأل شخصا عن اسمه ولم يسأل أيضا عن دينه ! الملامح
مصرية.. القسمات مصرية .. النظرات مصرية مهما اختلف لون البشرة ، أو الشعر، أو
الطول أو الوزن.. كلها أشياء لم يعد لها معني في الميدان.. تملكه شعور غريب .. إنه
صغير جداً!لا شيء وسط هذه الجماهير! إنه نكرة! إنه لا شيء .. من أنا ؟ ما
قيمتي ؟ إنني أصغر مما أتصور !.
كان يحدث نفسه وهو يفتش في الوجوه حيث لا توجد
مسافات خالية بين الأجساد ! ولكنه لم يشعر بهذا الزحام الذي يراه! تحتك الأجساد
بقوة لتبدد برد الشتاء ! ولكن الأرواح تنطلق في عالم رحب ليس له حدود ، لم يشعر
بضيق من الزحام ولم يفكر فيه ! شعور لم يجربه من قبل ولم تمر عليه تلك اللحظات
عبر شاشات التليفزيون التي تنقل الحدث بالبث المباشر لحظةً بلحظة ! أمواج متلاطمة
من البشر وإعصار رهيب من الأرواح السامية !زحام علي الأرض بين الأجساد وفضاء رحب
بين الأرواح في سماء الميدان ! الشباب و الكبار، الفتيات والنساء ، لم يشعر بأحد
يطأ فوق قدمه رغم أنه لا يراها ! لم يشعر بتلك المشاعر الدونية ! بل يري مئات
الآلاف بروحه وعينيه التي لم تنظر إلي جسد ! قال في نفسه وهو يتعجب : لست أنا من
كان خارج الميدان قبل ساعات قليلة !.
شيء غريب أثار فضوله وهو يتجه خارج الميدان في
رحلة البحث عن مسجد صغير ! لم يفكر في جنس شخص ذكر أم أنثي! لم يفكر في دينه
مسلماً كان أم مسيحياً! لم يفكر في لونه أبيضاً كان أم اسوداً ! لم يفكر في أي
شيء سوي أنهم معا في قلب الميدان .
كانت تلك العمارات العتيقة والمباني العالية
المحيطة بالميدان محط أنظار المارة لمعرفة أسماء الأطباء والمحامين والمحاسبين والمكاتب
الاستشارية! ولكنه الآن يراها ويري مجمع التحرير الضخم كشاهد صغير أمام تلك الجموع
الغفيرة من البشر! لقد تحول الميدان إلي كتلة بشرية واحدة ارتفعت فوق المعاني
والمباني ليسمو البشر فوق الحجر! .
خرج من الميدان باحثاً عن مسجد صغير في شارع
جانبي فطالت رحلة بحثه ! حتي المساجد الصغيرة مزدحمة ويصطف الناس أمامها
بالطوابير ! كانت مشاعره قد تبدلت ونسي البيت والأسرة ونسي كل شيء ولم يعد يري أو
يسمع إلا الميدان وتلك الهتافات المدوية
والحناجر القوية والإرادة الشعبية. لم يجد
مفراً غير الوقوف في أحد الطوابير ليأخذ
دوره في دخول المسجد! إنها المرة الأولي التي يراها في حياته ويعيشها في مدينة الألف مئذنة ! توضأ وعاد أدراجه إلي الميدان ليمر بنفس خطوات التفتيش وإظهار تحقيق الشخصية ، كان يسارع لتنفيذ ذلك بفرحةٍ غامرة ، بلا تململ كأنه يريد الحصول علي تأشيرة الدخول للولايات المتحدة الأمريكية وليس لميدان التحرير! دخل الميدان مرةً ثانية ولكن بخطوات أكثر ثباتاً وبدا أكثر ثقةٍ بنفسه وشعر بأن له قيمةً عن ذي قبل ! .
بدأ يفكر في الهتافات
التي يرددها المتظاهرون .. رددها معهم وجال ببصره ليري أي المنصات يتجه إليها فقرر
أن يتجه إلي المنصة الرئيسية رغم صعوبة الوصول إليها والزحام الشديد حولها !رحلة
صعبة وشاقة ولكنها ممتعة ، لم يشعر أنه يسير فوق الأرض بل شعر بأنه يطير في سماء
الحرية ، اقترب من المنصة أكثر وأكثر ووقف مكانه وليس مكاناً أرضياً بل حدود مكانه وجوه البشر الذين يحيطونه ، ردد
الهتافات وبدأ يرفع يده تارة مفتوحة وتارة
يضم قبضة يده ، نظر إلي المنصة فلمح المتحدث يهتف من ورقة في يده ! نعم إنها قصاصة
صغيرة يقرأ منها ! ازدادت ثقته بنفسه وبدأ يفكر في الهتاف بشعارٍ جديد ثم أعاد
التفكير ثانيةً لماذا لا يهتف هو ويهتف الآخرون خلفه!؟ المنصة تهتف بمكبرات صوت
ولكنها هتافات معدة مسبقا! وكأنهم أحضروا هذا الشخص لأنهيملك صوتا جهوريا فيهتف من القصاصة ويقرأ منها بلا خجل بل بفخر واعتزاز!.
تفحص الوجوه المحيطة به
فألفهم وألفوه واطمأن إليهم وكأنه يعرفهم منذ سنوات بعيدة ! التقت النظرات في حبوود وابتسامات خفيفة وهم يرددون الهتافات كأنهم يرددون أجمل أغاني الحب والعشق والهوي ! كانت المشاعر
دافئة فأنستهم البرد والإحساس
به ، نظر إليهم مرة أخري وهو يقول لهم هيا لنهتف ونقود المنصة من أرض الميدان !
نظروا إليه وسألوه : هل عندك هتاف جديد وقوي؟ أجابهم بنعم فطلبوا منه أن يهتف به
فوراً.
رفع يده اليمني ملوحا
بقبضة يده هاتفا : رب واحد فرددوا خلفه رب
واحد وانساب هتافه كنهر متدفق
رب واحد ، وطن واحد ، شعب واحد ، إله واحد ، هدف
واحد ، حلم واحد ، جيش واحد ، كلنا واحد
يارب .. يارب .. أنت الواحد...
انتقل الهتاف إلي الميدان كله فردده
الميدان في صوت يحرك الجبال فابتسم
ابتسامة القائد المنتصر في معركة فاصلة ! وهو يردد بينه وبين نفسه : لم أعد نكرة ،
لم أعد صغيرا .
|