عندما بكت الستارة
صديقتي النافذة سألتصق بك اليوم أكثر من أي وقت مضى.. سأتشبث بزجاجك الحنون، سأحميك من سياط الشمس الملتهبة ولن أسمح أبدا لأي يد أن تزيحني عنك أو أن تعقد أطرافي بشرائط تهلكني وتكبل متعتي في عناقك الجميل.
سأفتقدك كثيرا منذ اليوم لأني سمعت حديث سيدة المنزل وبناتها اللواتي سخرن مني كثيرا وقلن بأني باهتة ومهترئة لا جدوى من بقائي معلقة على جدار غرفة الضيوف الواسعة والمزدانة زواياها بأصص الزهور وبتحف الكريستال، تحدثن عني بقسوة قلن بأني قديمة لا أليق بنافذة مصقولة ولامعة، قلن أشياء كثيرة جرحت مشاعري ولم أستطع إزاءها سوى أن أدثرك بصمت وأسمعك أنيني.
لذا أنا حزينة الآن، قريبا ستأتي سيدة المنزل بستارة جميلة تضفي على المكان سحرا وأناقة، ستارة باهظة الثمن سأتخيل أنها حمراء مخملية بورود صغيرة منسوجة فيها بدقة، الكل سيسعد بها ستتراقص الفتيات أمامها بفساتين الدانتيل المزركشة وستحبها السيدة كثيرا قبل أن تعلقها تحملها برفق كأنها تعانقها وترش عليها قليلا من العطر وتثني عليها ثم تخبر رفيقاتها حين يسألن عنها أنها ابتاعتها من متجر كبير وقماشها لن يتأثر مع مرور الزمن.
أعلم أنك ستسعدين بمقدمها كثيرا ستكونين فخورة بصحبتها لأنها ستحميك أكثر مني، أنا العجوز العتيقة البالية التي ربما سألقى حتفي في أقرب قمامة.
لكن يا صديقتي تذكريني كلما صفرت خلفك الريح وكلما طرق زجاجك عصفور، وكلما مسحت وجهك يد الخادمة المخلصة تلك التي تتألم الآن على رحيلي وربما تتمنى أن تصنع مني قميصا لوسادتها أو غطاء لطاولة غرفتها، تذكريني صباحا عندما تفتحك الأيادي وتنظر العيون إلى الخارج المطرزة طرقاته بالمطر وخطوات وزحام الحياة وتذكريني مساء حين يهمس القمر للشرفات ويغني للسامرين في الدروب البعيدة، وحين يواسي الغرباء ويلقي عليهم وشاحه الفضي كي يبصرون النور، تذكريني كلما تنهدت زهرة أو عانقت النجمة نجمة أخرى، تذكريني كلما رقدت الظلال الناعسة على كتفك وكلما تمايلت الأغصان نحوك كأنها تبوح لك سرا أو توشوش لك حكاية صغيرة، لا تنسي صحبتي القديمة ولمساتي، لا تنسي لوني وأطراف ثوبي الأنيق ذات يوم.
همست النافذة بحزن عميق لن أنساك أيتها الستارة المخلصة، لطالما خففت عني من لفحة الصيف وبرد الشتاء، ستبقى بصماتك الطيبة ساكنة في أعماقي تماما كحبات المطر الندية التي كأني أسمعها تتساقط الآن على زجاجي غناءً وحبا، إنها تنعشني كلما هبطت برفق على وجهي، كلما ترنمت أزددت ألقا وبهاء، أيتها الستارة ارحلي بصمت لقد عملتي بجد وإخلاص طوال بقائك معي، ارحلي دونما بكاء وترفقي جيدا بنفسك.
يصعب علي فراقك ولكن ليس بوسعي شيء كما أنه لا يمكنني أن أبقى دون غطاء حريري شفيف، لا يمكن أن أستغني عن لمسة ستارة حانية، إنها تدثرني بالحب لأنها قميصي وحضني ومعطفي الأمين.
الستارة توأم لي، هل رأيت نافذة دون ستارة؟؟
حتى الفقراء لا يمكن أن تبقى نوافذهم دون غطاء، إنهم يحسون جيدا بمعاناتها ومشاعرها الرقيقة.
عزيزتي الستارة عديني أن لا تموتي حين تأخذك سيدة المنزل من حضني.. عديني أن تتماسكي كي لا يشحب لونك، لا تغبطي الستارة الجديدة على قدر مجهول فربما لن تشعر بالراحة في قصر وتتمنى أن تسكن في كوخ صغير، وربما لن تسعد بالتباهي أمام العابرين في الصالة الواسعة.
أظن أن الصور والأشياء الثمينة التي تزين البيت تبارك قدومها خفية ولن تكيد لها أو تشاكسها.
أظن أنها طيبة أيضا مثلك ستترفق بي وتهدهد حزني.
وبعد لحظات تصمت النافذة وتكبت ألمها وتبكي الستارة آخر دموعها
حينما يتناهى لهن صوت خطوات قريبة وهمسات وضحكات، تأتي الخادمة بكرسي وتعتليه باتجاه الستارة وتسحبها ببطء، تحاول أن لا تؤذيها لأنها تعلم أن لكل شيء إحساس مهما كان، قبل ذلك كانت النافذة تضم الستارة بقوة إلى صدرها وتوصيها بأن لا تنساها.
وترحل الستارة بعد أن خدمت النافذة طويلا، ترحل بصمت وفي صمتها غصة ووجع.
تتأثر الأشياء وتهتز الكنبة الوثيرة ووسائدها الناعمة وتتنهد الساعة وتدق بعنف وتلدغ عقاربها الأرقام.
تصفق سيدة المنزل تنادي بإحضار الستارة الجديدة وتتراكض الفتيات مندهشات بلونها البراق، يتبادلن عبارات الفرح ويتمايلن بجذل أمام الضيفة الجميلة.
|