 |
قسم فنجان عند سوق مطرح فنجان عند سوق مطرح |
قصة ( فنجان عند سوق مطرح )
عندما يرتفـع صوت ُ آذان الفـجر ، يكون قد استبق المؤذن في النهوض . اعتـاد الاستيقاظ ، و عين الفجـر لم تشفف كحل الليل . و حين فرغ المــؤذن من الآذان ، و يتراجـع مكبر الصوت الموجود عند المنبر ، ليجلـس حيث مكـان الصف ّ الأول من المـصليـن يـكون هو عن يمينـه أو شمــالـه ، كــأول مصـل ٍ يدخـل المسجد بعد المـؤذن .
من بين الأزقة الرطبـة ينـسل إلى البيت بلا ضجيج حيث تبدأ رحلتــه اليومية مـع إبريق القهوة المطوق بالجمر .
القهوة المرّة التي قاسمتـه على زهـاء الخمسين عامـا ً من عـمره . خمسون عاما ً أي خمسة عقود في كـل عقد عشرة أعوام ، في كل عام اثنا عشر شهرا ً ، في كل شهر أربـع جمـع . كل أسبوع يحمل سبعة أيـام ، كل يوم يمر عنده كسابقـه لا يؤرخ سوى بقيــضـه أو مطره أو محاصيلـه .
طويل القامة .. خفيف اللحم .. خفيف الذقن يــــــذرع سوق مطرح عشرات المرات بخفــّة متناهيـة و البسمة مرسومة في التقاطيع السمراء . يـــذرع السوق من بناية طالب حتى المدخل الشرقـي المصطدم باللسـان البحري المندلـق من تحت قنطرة الشارع المزحوم بعجلات مسحوقة بفعل رتم ساخـن يحول راحة البال إلى بخـار .
ثمة استشفاف لعلاقة باطنية و حميمية ما بين سوق مطرح و البحر هذه العلاقة التي يــُـخال إليك أن المصمم المعماري للشارع البحري قد تنبــّــه لـها حينما تقرر إقامة شارع على الشريط الساحلي المـعانـق للـسوق منذ الأزل .
من غير المستبعد أن يكون ذلك المصمم عاشق ذاق مرارة البـعد عمن يحب ّ ، فعز ّ عليـه أن يكون عزولا ً بين محبين فصمم قنطرة تكون عين للبحر يناظر بـها السوق و رجال صواريـه ، و لا يتدارى الموج عن السوق ليبقـى مددا ص لحياتــه و لو كـان في لحظات المد ّ .
ربما سالم يدرك مكنون هذه العلاقـة رغم أنــه لا يدرك حتى الآن سر ّ إصرار العديد من المتردديـن على السوق على احتـساء قهوتـه رغم تكاثر المقاهـي التي تقدم القهوة و العصائر و توفر مقاعد للجلوس .
مطلب قهوته لم يقتـصر على ذوي الشوارب و اللحـى فحسب ، بل تعداه ليـصبح متعة نسوة صيفيات و شتويات يكثرن التردد على سوق مطرح . فغدى سالم يتــّــقن التمييز بين مـَــن قذفت بكعبها العالي مدنا ً بعيدة و بين مـــَــن صيــّــفتـها رياح التغيير .
يـــذرع أغلب أزقـة الـسوق ، لكنــه نادرا ً ما يميل إلى سوق الظـلام .
و إذا حدث و انعطف ناحية تلك السكة التي تمثل سوقا ً داخل السوق تغـيـّر وجهه ، و تذمــّــر و غدا صدره أضيق من ذلك الزقاق الذي تطبق الحوانيت على ضفـتتيــه الملتويتين كسمكتي ( علـص ) فوق حصيرة . ضيقـه و تذمــّــره ليس مصدره تجار الدكاكين ، فكل تجـار السوق أحبابـه ، و فوق ذلك لك تنزرع في صـدره خليـة الكراهيـة . لكـن مصدره هـو الاصطدام .. الاصطدام المكروه لسالم .. المتمني .. و المبتغي .. و المحبب لآخـريـن .. كثيرا ً ما يردد حينما يصطدم بجسم بـــظ ّ يوقـظ في أحشائـه نيران مخفيـة تحت رماد سعيـّـه اليومي .. * " ناس ما عندهم حـــيا و لا خجل " - " ليــش يا سالم ؟! " * " لو كان عندهم خجل و حــيا ما جابوا حريمـهم في زحمة الـسوق " . - " الناس يتبضـعو و يتفرجو يا سالم " . * " يوم يبغـــو يمشوهـن ّ في غير وقت الزحمة . المفروض النـسوان ما يزاحمن الرجال .. و خصوصـا ً في وقت الأعيـاد " . و لا يكــل ّ من الحديث فيقول : " أنا في زحمة الأعيـاد ما أقدر أرفـع يدي على راحتها لصب ّ ّ القهوة في الفنـجان ، فكيف تقدر الحرمة تمشي ؟ " . و بـحسن نيـّـة لا يتوانـى ، و لا يتردد في القـسم بأغـلظ الأيمـان إثباتا ً لمشــاهداتـه المتكررة لخبثـاء يتعمــّــدون الالتصاق بالنساء حينما تكون الزحمة على أشدّهــا . يلتصقون كقهوة رطبـة علقت في مغراف . لم يكـن قد تجاوز العاشرة يوم جاء سالم من قريتـه ( صياء ) فعمل لفترة قصيرة حمـالا ً في الميناء القريب .. ما لبث أن هجــر تلكك المهنة استجابـة لغزل دلــّــة القهوة التي لم يحدد سعرا ً معينــا ً لفنجانــها ، بل كثيرا ً ما كـان يقول ( ما يحتاج ) بعفوية يردد هذه العبارة لمـن يسألـه عن ثمـن الفنجـان فيـخال إليـك بأن أحاسيسه تــُـوحي بأن مـا يقوم بـه ليس سوى واجب يمليـه العـرف .. بيد أن رزقـه يعتمد على كـرم مـَـن يحتسي قهوتـه . بعضـهم ينــــقده عشر بــيسات و غيرهم يدفـع بين 25 بيسة إلى مائتي بيسة ، و هنـاك مـَـن لا يـدفـع شيئا ً قط ّ. لـكن سالم يـــُـقسم عــلى أنـه صاحب أغلى فنجان قهوة في العالم ، فقد وصل سعر فنـــــجانـه في يوم من الأيام إلى مبلغ خمسين ريالا ً . يقول سالم : كان ذلك من حوالي خمس أو سبع أو ثمان سنوات ، حينما دخل رجل لأول مرة أراه في السوق ، و شرب من قهوتي فنجانيـن ، و قال لي قهوتك طيبة ، و نــاولنـي ورقـةواحدة 50 ريال . يومـها ركضت وراءه ظننته غلطـان ، لكنــه قال لي الباقي لك ، فتسمـّـرت في مكـاني من الذهول .
سالم لا يزال طويل القامة .. خفيف اللحم .. خفيف الذقـن يذرع السوق بخطوات شابـة قابـضـا ً على إبريق نحاسي قاعدتـه جمر الفحم ، به قهوتـه الفريدة التي لن تجدهـا باردة قط .
لم يـغيــّــر لباسـه ، و لا طريقة صب ّ القهوة في الفنــجان ، لكنـه آثـر تغيير ( الطــاقيــة ) المسقطيـة الرمادية التي اشتراهـا منذ سنوات لا يستطيـع تذكرهــا .
استبدلـها بأخرى ذات ألوان زاهية تـناهـى إلى مسامـعه من لــسان البــائـع بأنهــا صنــعت في بلاد تــُــدعــى تايلند !.
|
|
|
| | |