• ×
الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 | 03-01-2013

القصة القصيرة : شـاورما بيضـاءبقلم لميــاء الحراصــي

القصة القصيرة : شـاورما بيضـاءبقلم لميــاء الحراصــي
0
0
337
 
القصة القصيرة : شـاورما بيضـاء

بقلم/ لميــاء الحراصــي




ذات صباح كسول كانت آثــار على موعد مع قدر غريب، فقد نهضت تشتهي سيجارة،

بدأت الرغبة تتفاقم حتى أسرعت إلى أقرب متجر وابتاعتها متجاهلة نظرة البائع المتعجبة إليها.

بعد أيام من التدخين المفرط بدأت تسعل بقوة شديدة... فاختلاط دخان التبغ بالبخور المركز الذي تبخر به الغرفة ليخنق رائحة التدخين بدأ يخنقها!

* * * * *

في خضمّ استعدادها للعمل في الصباح التالي صارت ترغب في احتساء الجعة... في الحقيقة لم تنجز مهمة واحدة من مهامها المتكاثرة.. كانت تفكر فقط في كيفية الحصول عليها... كان اليوم مرّاً وطويلاً.. تتنهد \" أريد العودة للبيت كي أحتسي الجعة.\"

* * * * *

في الشارع تلاحقها ومضات استرجاعية لمكان ما يكتظ بالناس متعددي الجنسيات..إنحرفت فجأة بمقود السيارة وعبرت شارع لا تعرفه ثم انعطفت يميناً باتجاه فندق لم تره من قبل, أوقفت السيارة ورفعت طرف شيلتها على وجهها ومضت مباشرةً إلى البار وهناك وأمام دهشة بعض الرواد أشترت كمية من الجعة ثم مضت ..

في البيت ظلت تنظر إلى العلب في حيرة, سألت نفسها مراراً هل ينبغي حقاً أن تتبع رغبتها في إحتساء ما بها من مشروب أم تقاوم تلك الرغبة؟ في الأخير حشرتها جميعاً في الثلاجة الموجودة في غرفتها ثم أغلقت بابها واستندت إليه.

ظلَّ رأسها يدور وهي تدور، أحلامها تدور، نفسها تدور وكيانها برمته تدور، فتراتيل ألمها تقتص من ذاتها لا تعلم ما العمل، كيف توقف دوران كينونتها حول كل ما يسيء إليها ويرسلها للهاوية، تسأل نفسها بحنق: لمَ أفعل هذا بنفسي؟!... لمَ أشتتها وأضحك منها؟ ألأنتقم منها لعدم استحقاقها حياة ثانية؟!


تطرق أمها الباب لموعد العشاء.. تنهض مخدرة إلى الحمام ، ترش وجهها بماء بارد قبل أن تذهب لغرفة الطعام حيث يلتف أخوتها السبعة على المائدة، تتخذ مكاناً بالقرب من والدها كما تعودت منذ طلاقها وتحدج زوجة أخيها الكبير بنظرة غريبة، تحاول أن تنفض رأسها من ذكريات قديمة وتنظر إلى العشاء باستنكار، تكتشف فجأة بأن نفسها تهفو لتناول \"الكويك ميلز\" و\"الشاورما\"، ولم تعد تشتهي الأطباق المنزلية التي لطالما شغفت بتناولها.

لآحظ الجميع بأنها ما إن جلست على الطاولة حتى مدت يدها إلى الطعام قبل أن يمد والدها يده!، ابتسم لها كعادته لكنه لم يستطع حجب تلك النظرة المندهشة التي بانت واضحةً من زجاج نظارته, فيما حدجتها أمها باستنكار.

في الأيام التالية, تغيرت أغلب طباعها وأكتسبت طباع وعادات جديدة.. ها هي الآن تدخن سراً و تشاهد أفلام الأكشن والرعب رغم ماضٍ حقود عليها، وها هي تذهب للسينما وتتابع جديد الافلام بشغـف وها هي تشاكس أبويها وتصرخ في وجوه إخوانها, كما كرهت سيارتها المرسيدس، وصارت تتشوق إلى قيادة الموستانغ أو أية سيارة رياضية أخرى!.

* * * * *

لا عجب أن تبكي خلف شباكها السماء; فهي التي وئد حلمها مرتين, الأولى حين منعت من الجري مع الصغار وفي الحدائق وعلى شاطئ البحر لأنها ولدت بقلب ضعيف يخاف والديها من توقفه لأدنى جهد, والثانية حين تخلى عنها زوجها بعد أن تدهورت صحتها وبقيت حبيسة المستشفيات العامة والخاصة لعامٍ كامل قبل أن يجدوا لقلبها متبرعاً متعللاً بحاجته إلى أطفال أصحاء يملؤون بيته صراخاً وشقاوة،...حاولت أن تلتصق بخاصرة الدنيا بلا جدوى فرفضها لها مستمر!

لم تنم تلك الليلة، ظلت تبكي بحرقة طوال الليل حتى الفجر، برغم أنها قد غطت نفسها بالكامل إستجلاباً النوم.

في تالي الأيام, ظلت تحلم برجل بلا ملامح يقف فوق رأسها وينثر طحيناً أبيضَ على كامل فراشها وجسدها العاري، لم تكن مقيدة ولكنها لم تستطع الحراك مطلقاً!


تكرر الحلم مرة أخرى خلال ذات الأسبوع.. قررت تجاهله لغرابته، ظنت أنها أضغاث أحلام، لكن بعد أربعة أيام هاجمها كابوس آخر، استيقظت على لسعة قوية مفاجئة لترى مسحوقا أسودا يلطخ غطاء سريرها الزهري, ورائحة دخان ما تزال تنتشر في الغرفة و تخنق الهواء النقي.

* * * * *

كادت تجن بسبب ذلك الحلم المكرور وانعزلت عن أهلها الذين قلقوا عليها بشدة بعدما أصبحت تتناول الطعام وحيده بعد موعده, وعندما حاولت والدتها و زوجة أخيها فهم الهواجس التي تعتريها منعتهما بحزم،لم لا تفهمان؟؟ صمتا تريد،بياضا تريد, فظلت محصورة بأحاديثها الذاتية, لأنها لم تعد تأبه للهفة الآخرين عليها, كانت هادئة وسادرة في الصمت.

ذات ليلة, أدركها النعاس فغفت قليلاً فرأت ذاك الرجل يجلس إلى جوارها, استطاعت أن تتبين ملامحه وأدهشتها نظرته الرقيقة والمسالمة, لكنه فجأة أمسك بفكها وسكب الكثير من الطحين الأبيض في جوفها.

من هو هذا الرجل؟
لا تعرفه......لم تلتقه قط!
دائما ما تجرحها الذاكرة !

منذ ذلك اليوم قررت أن تترك قياد نفسها المتعبة بالمطلق ولا تفعل شيئاً عدا أن تتبع الأحاديث التي تعتمل في خلايا دماغها, مشت بسيارتها في أزقة لم تكن معهودة لها, قابلت أناس عبروا أحلامها قبل أن تلتقيهم في الواقع, فعلت كل شيء أمرها به صوتها الداخلي.

في يوم حار أفاقت في ساعة متأخرة على وخزة من الوجع تنبىء بألم خفيف في صدرها ولكنه أفزعها نظرا لتاريخها المرضي..مسحت وجهها وتدريجيا بدأت تنسلخ عن الواقع حين تذكرت أنها في حلمها راهنت جراحها على بعضها وانكبت على شاورما بيضاء تنهل منها حتى أنهتها حتى أدمنت الصمت والدخان وتلك البودرة المدبسة بتذكرة سعادة مجانية..

استلقت شبه واعية بابتسامة عابثة في دنيا جميلة تلونها البالونات الحمراء والصفراء ..وأمنيات خضراء تعبث في حقول زرقاء ..حتى السماء كانت ملونة والأرض بيضاء كجزر عذراء..!
هناك في تلك الأرض قابلت فتاة تدعى منى.,!

بالرغم من أنها تلاشت سريعا ألا أنها لم تجد صعوبة في الإستدلال على عنوان بيتها, فلقد كان بتفاصيله الدقيقة محفوراً في عقلها الذي فقدت السيطرة على بوصلة أفكاره!!

* * * * *

في الصباح نزلت من سيارتها وتقدّمت بارتباك من الباب, فتحت لها امرأة سوداء فحيتها باسمها ففغرت الأخيرة فمها دهشه, سألت عن منى وقبل أن تجيب الخادمة بأي شيء دخلت إلى غرفة المعيشة وجلست على الأريكة البيضاء تنتظر.

رحبت منى بزائرتها الغريبة, مدت يدها مصافحة لكن تلقفتها الأخرى بالأحضان والقبلات والدموع, إرتبكت من هذه الزائرة, أبعدتها عن جسدها بقوة وكادت أن تطردها, لكن آثــار رجتها أن تصبر عليها وتتركها تتحدث.

أخذت آثــار تخبر منى عن ذلك الشاب الذي يزورها في المنام ويسكب طحيناً أبيض في فمها, عن الأشياء التي لم تكن تحبها وأصبحت تدمنها, عن الجعة وأفلام الأكشن والسجائر وعشقها الطارئ لها واستدلالها لعنوانها بدون إرشاد .

ظلت منى مشدوهة لما تسمع, وضعت رأسها بين يديها وهي تنصت لأسرار لم يكن أحد سوى حبيبها سامر يعرفها عنها, تحملت أن تصغي طويلاً للأوقات الحميمة التي جمعتها بسامر تنساب على لسان آثــار دفعةً واحدة!!

كان ذلك فوق احتمالها, كادت تجن عندما أخبرتها آثــار بلهفتها المفاجئة لأن تشاطرها أكل شاورما ملفوفة بورق السوليفان وبداخلها مسحوق أبيض, استعادت من فورها ذكرى ذلك اليوم الذي اصطحبها فيه حبيبها المتوفى سامر إلى مقهى منعزل في أقصى المدينة وطلب ساندوتشان وألح عليها بتذوق أحدهمها بينما كان يلتهم الآخر بولع, و كيف أنه جعلها تدمن فيما بعد على ذلك النوع من الطعام حتى جاء اليوم الذي صارحها فيه بأنها قد باتت أسيرة مثله للمخدرات!, لم تعد راغبه بسماع المزيد, قاطعت استرسال آثــار بإشارة من يدها ودفعتها دفعاً إلى الباب, حين غدت آثــار خارجاً شعرت بأنها هي الأخرى ستفقد ما تبقى لها من عقل, هرعت إلى مستشفى الأمراض النفسية, قابلت الطبيب الذي أبدى تشككه ودهشته وحيرته, وحين طلب منها أن تحكي له عن قصتها كاملة, أستطاع أن يلتقط خيطاً يقوده إلى الفهم!.

تحدثت آثــار عن خضوعها منذ أشهر لعملية نقل قلب من شخص متوفي, طرح الطبيب فرضاً أن الذي أنتقل إلى آثــار ليس فقط ذلك القلب بل كل المعتقدات والأحاسيس والأحلام والرؤى والقناعات والذكريات التي تخص ذلك القلب, أخبر آثــار أن تلك هي فرضيه علمية لم تزل قيد الدراسة وليس باستطاعته أن يبني عليها حقيقة مؤكدة!!. وحيث أنه ليس هناك دليل يقطع تماماً بتلك النظريات ويعطي تفسيراً منطقياً لما يحدث معها, فإنه ينبغي لها أن تزوره مراراً ليوجدا وسيلة تمكنها من التعايش مع مشكلتها التي ستلازمها طويلاً.
* * * * *

بعد أن خرجت آثــار من عنده, كانت الأسئلة قد وجدت حلولها ولم تعد معنية بالعودة إليه, لقد غدت الدنيا بلا طعم ولا رائحة خارج أفق رجل ميت لم تعرفه, أدركت أنها لم تعد هي هي وأن الناس لن تقبلها كما هي عليه الآن.

أخيراً, برق في ذهنها يقين بأن الحياة محالة برغبات ممنوعة لرجل كانت لديه فيوض من الحرية لا تقدر هي عليها,تمنت لو بإمكانها أن تعود طاهرة تعلق ضفيرتين كسولتين على ظهر الطفولة ،ولكن حدود الدمع والألم يمنعانها..

يجب أن تنقذ نفسها من طوفان الأم وتلك الرغبة الحارقة بشم تلك البودرة البيضاء لتهدئ صراخ دمها المؤكسد.. بكت طويلاً ونظرت إلى السماء حيث يراها الرب من علياءه, ذرفت دموعاً تتوسل المغفرة, قبل أن تنحرف بسيارتها !!