عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 25-08-2016, 08:36 PM
الصورة الرمزية ناجى جوهر
ناجى جوهر ناجى جوهر غير متواجد حالياً
إلى جنات الخلد أيها النبيل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2013
الدولة: أعيش في سلطنة عمان ـ ظفار ـ مرباط
المشاركات: 3,170

اوسمتي

افتراضي




سبع الليل


والبئر المعطّلة




مبارك الملطوم


في الصباح انتشرت شائعة مفادها أن مبارك بن مبخوت قد تعرض له العفريت
ليلة البارحة ولطمه لطمة أفقدته عقله، بعد أن سخر منه وهزئ به، ولم يصدّق
أنّه وحش حقيقي، فأصبح يهذي بكلام المجانين فأقبل القرويون يواسون أسرة الفقعي ابن قريتهم
وفي نفس الوقت يعززون اعتقادهم الساذج، ويؤكدون لأنفسهم أن الخرافة الموروثة حقيقة حينما يرون
ويسمعون مبارك الملطوم وهو يخرّف. وخرج الأطفال والسُفهاء والمجانين يرددون أهازيجا يهجون بها الشاب
الذي شذّ عن قاعدة الاستسلام، وأخذوا يطوفون أزقة القرية وأحياءها يغنون ويزمِّرون في بلاهة وسذاجة.
وسمعت منى بنت لبخيت ما يقال عن بن خالتها فلم تصدّق أنّ مباركا المتعلّم يمكن أن يكون أحمقا وطائشا
فألحّت على والدتها في الذهاب معها للاطمئنان عليه. بينما جعل كبار القرية وقد غلبت عليهم النشوة يتشدّقون
بكلام فاضٍ عديم الحكمة وينعتون ابن الفقعي بالغرور والوقاحة وبذاءة اللسان، وأن التعليم قد أفسده
وأخذوا يتوعّدونه بعقوبة أفظع إذا ما تعرض بالسخرية لسبع الليل مرة أخرى، مع أنّ أغلبهم هم يدركون تماما أنّه محق
ولكنّ يمنعهم سببان من الاعتراف بصدق تكهّن الشاب المتعلّم السبب الأوّل استمراؤهم الخنوع وتعوّدهم عليه
والسبب الثاني الحسد فهم لا يرضون بفضل لأحدٍ سواهم. وأراد الوحش المزعوم أن يثبت للقرويين ولابن الفقعي
على وجه الخصوص أنه موجود حقيقة لا خيال وكان ذلك تصرفا أرعنا منه غبيا، إذ اعتقد أنّ مبارك جاهل جبان
مثله مثل الآخرين الذين أخضعهم واستعبدهم، واستغفلهم وأذاقهم الأمرّين. بينما أصيب الشّاب بالصداع من تفاهات القرويين
وخزعبلاتهم وهم يحاولون تخويفه وإرهابه وتحذيره من الاقتراب من البئر ليلا، فلا ينصرف رجل جاهل حتى يحل محله
رجل اجهل أو امرأة معتوهة وكل يعظه ويرغّبه وأخيرا يرهبه، فأبدى لهم اقتناعا مصطنعا و توبة مزيفة
فتركوه ووكلوا به من يراقبه، وعندما وصلت منى تهافتت عليها القرويات يطلبن منها اقناع ابن خالتها بالتخلّي عن إعمال فكره
والرضا بما رضي به الآباء والأجداد والأبناء، فهو لن يرفض لها طلبا نظرا لما يحمل لها من محبّة ومعزّة فوعدتهن خيرا
وحينما انفردت به سألته: أحقا تعرّض لك سبع الليل؟ قال: أتمنّى أن يتعرّض لي. قالت: الا تخافه؟ قال: كيف أخافه ولم أره؟
قالت: انا قد رأيته بعيني، قال: صفيه لي. قالت: إنّه مخلوق طويل جدا، ينفث النار من فمه فيحرق الأكواخ والزرائب، ويطارد ...
فقاطعها مبارك: اعرف هذا فهل يدخل البيوت؟ قالت: لا. لا يمكنه ذلك بسبب طوله الفارع. قال: فمن يسرق الأموال إذا؟
فسكتت برهة ثم قالت: لا أحد يعلم من يسرق المال. قال: إذا فهناك من يستغّل هجوم الوحش المزعوم فيسرق وينهب
قالت: لا نرى أحدا سواه. قال: ذلك لأن اللصوص يدخلون البيوت عندما تغادرونها، قالت: أظنك محقا.
ولكن كيف ستقنع هؤلاء المرعوبين؟ قال: لا بدّ أن يكون بينهم بعض العقلاء استعين بهم بعد الله على كشف العصابة
قالت: أتظنّ أنها عصابة؟ قال: بل أقسم على ذلك وسترين. وفي المسجد تلقّى مبارك المزيد من التوبيخ والتهديد والنصح
الغير رشيد ولم يتمكّن من فعل شيء ذلك اليوم غير المرور بالبئر مرور الكرام بسبب الرقابة المفروضة عليه
وبعد صلاة العصر اجتمع به بعض شباب القرية على دكّة المسجد وأخذوا يناقشون القضية، فأعرب ثلاثة منهم عن الاستعداد
لمرافقته إلى البئر متى شاء، لكنّه امتنع عن مجاراتهم خوفا من أن يمنع أو يعرقل عن اكتشاف الحقيقة
وهو كذلك يجهل حقيقة نواياهم وأهدافهم، وبعد صلاة المغرب أغلق معظم القرويين منازلهم، ولجأ آخرون إلى البيوت الأكثر
امنا، تحرُّزا من انتقام وحش البئر الشرير الذي استفزّه مبارك الفقعي وأغضبه بتصريحاته الوقحة فهو قادم لا محالة.
وصدقت تنبؤاتهم فما هي سوى ساعة من ليل حتى سمعوا صراخ الأطفال واستغاثات النساء تنطلق من بعض البيوت
التي اشتعلت نيران غضب سبع الليل بالقرب منها، فسرى الرعب في القلوب سريان السم في دم الملدوغ، وتمكّن منهم الهلع
فأخذوا يلعنون الشاب الأرعن الذي أثار عليهم غضب وسخط الوحش، ثم توجّه الشيخ غانم بن محمود شيخ القرية بمعية بعض
الوجهاء إلى بيت مبخوت الفقعي بعد رحيل سبع الليل المفاجئ وهم ساخطون ناقمون، وأخذوا يقرعون الباب في هلع وسخط معا
فلمّا ادخلهم وبّخوه على ليونته في تربية ولده، وتراخيه عن كبح رعونته وطالبوه بدفع مبارك الملطوم إلى سبع الليل لينتقم منه
فهو الذى هزئ به وانتقص من هيبته وأغضبه وسخِر منه ولم يعرف قدره ومقامه، فعليه مقابلته وجها لوجه، ها هو يعيث فسادا
فليخرج إليه مبارك القوي. فأحرج مبخوت الفقعي، وشرع يعتذر إلى القوم ويستعفيهم، ولكنهم كانوا تحت وطأة الذعر، وسطوة
الشائعات وحكم الهلع فلم يقبلوا منه صرفا ولا عدلا، إنَّه رأس مبارك مقابل رضا الوحش هذا ما أجمعوا عليه
فرفض آل الفقعي طلبهم بتحدٍ وعناد، ووثبوا إلى السلاح ليدفعوا به عن ولدهم، وقبل أن يحدث أي احتكاك بين الطرفين
سمعوا هاتفا يهتف من بعيد: مبارك بن مبخوت يطارد الوحش ... والوحش يهرب الوحش يهرب الوحش يهرب
وسمعوا صوت اطلاق نار عدّة مرّات، فاختلطت المشاعر بين الدهشة والخوف، والتكذيب والتصديق والفرحة والحذر
ثم انطلقوا جميعا إلى مصدر الهتاف، فإذا بثلاثة من شباب القرية واقفين يلهثون، فسألوهم عن حقيقة ما يقولون
فأكد لهم رشيد بن الشيخ غانم أنه ورجب بن النعمان ومحمد بن سِعِدْ إِر مغْلِلْ كانوا مع مبارك، وأنهم
طاردوا سبع الليل معا عندما رأوه مقبلا من ناحية القرية الشرقيّة متوجّها إلى غربها، إلا أنهم خافوا وتراجعوا عندما
نفث النار في وجوههم وظل ابن الفقعي يطارده لوحده دون خوف أو تردّد والوحش يفر مرعوبا
ثمّ سمعناه يهدده قائلا وبصوتٍ ناعم: عُدْ وإلاّ أكلتك ولكن مبارك شد عليه فهرب الوحش
فقال الشيخ غانم: وأين هما الآن؟ قال رجب: لقد توجها إلى البئر، ولسنا ندري ماذا يحدث هناك
غير أننا سمعنا إطلاق نار. فقال ابن فرضة رحى تاجر القرية شامتا: هلك الولد ، يا له من أحمق
إن الرصاص لا يضرُّ سبع الليل كما تعلمون، لا إله إلا اللهُ راح المسكين كشربة ماء، مكر به خاطف الأرواح لينفرد به
فأيقن الجميع أن الوحش قد استدرج مباركا إلى البئر ليفتك به هناك فخيم الصمت والحزن
ولم يجرؤ أحد على ذكر كلمة إنقاذ أو كلمة نجدة. وفي منزل مبخوت الفقعي ارتفع نياح النائحات وصراخ الباكيات
وشرع الجميع في لوم الأب الذي لم ينهى ابنه عن الرعونة والطيش، ولم يردعه عن التهوّر، وحمّلوه مسؤولية مقتل ابنه
ثم انصرف الشيوخ مرتبكين وتركوا تلك العائلة المفجوعة بولدها في أتون حزن وأسى وخوف وقلق. ولم تطق منى الانتظار
حتى الصباح عندما سمعت بما حدث، بل خرجت كالمجنونة حاملة فانوسا وهرِعت إلى ناحية البئر تسابق دموعها
فصادفت الشيخ غانم ومن معه وهم عائدين، فانتهرها أحدهم مستنكرا جرأتها على الخروج في هذا الظرف المرعب:
اجننتِ؟ أم لا تعلمين أن الوحش قد أخذ ابن الفقعي؟ فزاد خوفها على حبيب قلبها ولم تردّ عليه وواصلت سيرها
ثمّ لحق بها بدر والشبّان الثلاثة عندما رأوها متّجهة إلى البئر، ولم يبتعد المعاتبون كثيرا حتى عادوا أدراجهم مسرعين
فلقد سمعوا الزغاريد، وهتافات مبخوت وابنائه: الله أكبر الحمد لله سلامات سلامات
وعندما دخلوا الدار وجدوا مباركا بن مبخوت الفقعي بشحمه ولحمه واقفا كالليث العابس لم يمسسه سوء.
فأخذ بن فرضة رحى يجسُّه بأصبعه مدعيا أنه ليس ابن الفقعي بل هو سبع الليل متنكرا. فضحكت منى
وغضب الشاب وقال: أخرجن من دارنا أيتها الدجاجات الهلعة، فنكّس الرجال رؤوسهم ولم يعترضوا على الإهانة
لأنهم فعلا جبناء وأغبياء توجههم الشائعات وتتحكم بهم شرذمة من الخبثاء.
وحقد تاجر القرية على الفتاة التي سخرت منه أمام الجميع، وأضمر في نفسه نيّة سوء لها ولابن خالتها الجريء.
وسأل الشيخ محمود الشاب المتعلّم: احقا طاردت الوحش وهرب من امامك؟ قال: نعم. فقال ابن فرضة رحى
مستهينا: لم يهرب خوفا منك بل خشية من سيل الرصاص الذي أمطرته به، فقال الشاب: لست من أطلق الرصاص
ولا أعلم من الفاعل. قال: وأظنّك رأيت أن الرصاص لا يؤذيه؟ ثم خرج ضاحكا
وبعد رحيل الزوّار روى مبارك لعائلته ما حدث قائلا: إنّ ذلك اللص الذي سيطر على عقولكم وقلوبكم ردحا من الزمن
قد هرب من أوّل مواجهة حقيقية معه، ولو لم يقفز إلى البئر لكنت قبضت عليه وهتكت ستره.
لكّن الجميع كانوا يستمعون إليه مجاملة فقط، أمّا منى فكانت محبّتها تفرض عليها تصديقه بغض النظر عن الاقتناع.
قال الراوي:
في اليوم التالي صباحا نهض الشاب على أصوات كثيرة مختلطة، وعندما خرج من الغرفة فوجئ بوجود العشرات من
القرويين والقرويات كبار وصغار داخل وخارج المنزل، وهم يثرثرون ويتفوهون بكلام لا وزن له ولا قيمة، وحينما
لمحته النساء خارجا أطلقن زغاريدا متتالية، ثم أخذن يمتدحن شجاعته وجرأته ورجولته، وشرعن يهنئنه على السلامة
ويدعين له بطول العمر، ولم يكد الرجال يبصرونه قادما حتى بادروا إلى الترحيب به وهم يقولون بلغتهم الشحرية:
نجف عِدِدْ ..خَب عكْ عِنْهْ .. تب عر غِج حَرَدْ حجب لِه أيي سلُم هَت
وأخذ بعضهم يرقد الرقيد ابتهاجا بالبطل المغوار، الذي قهر الوحش المخيف وردع العدوّ الشرير، وقد عجزوا عنه هم
وآباؤهم وأجدادهم. ثمّ هُرعوا إلى السلام عليه وتهنئته بالنجاة، وأمر الشيخ غانم بذبح الذبائح وإقامة الأفراح
لكنّ مبارك قال: لا ذبائح ولا أفراح قبل أنْ اكشف سر هذا الشيطان الملعون وأقف على حقيقة شخصه
وكل ما أطلبه منكم أن ترصدوا تحركاته، وأن تبلغوني حينما ترونه في أي مكان.
فأعترض ابن فرضة رحى تاجر القرية قائلا: ما أجهلك يا ولد! وما أغباك! وما أسخف عقلك!
لقد نجوت من قبضة سبع الليل مرّة، فلن تنجو من مخالبه مرة أخرى. ثم أخذ يحرِّض القرويين السّذج على مبارك
شرع يحثّهم على منعه من التعرُّض لساكن البئر، وقال محذِرا: لقد رأيتم ما فعله الوحش بنا عندما سمع هذا الأرعن
يشتمه ويهينه، ولست مصدِّقا أنه قد طارد سبع الليل العظيم بمفرده، فإن شئتم أن تعيشوا في سلام فامنعوا الملطوم من
استفزاز ذلك الشيطان، ولا تسمحوا له بالاقتراب من البئر فهتف القرويون: مبارك الملطوم دع سبع الليل وشأنه
ثم انصرفوا خائفين هلعين، فشعر الفتى بالرثاء لأجل أولئك الرعاع.
ومضى تاجر القرية ينشر الدعايات الكاذبة ويخيف الناس ويهيجهم على ابن الفقعي مدّعيا الحرص على سلامتهم
من ثورة الوحش وغضبته الكبرى وفي الليل عاود السبع هجومهم مختبرا جدّية مبارك الفقعي وجرأته
وفي ذات الوقت أراد أن يؤكدا للقرويين الجهلة على صدق كلام التاجر بن فرضة رحى، واختار حيّا يبعد كثيرا
عن منزل آل الفقعي فهرع مبارك ومجموعة الشباب المتحمّسين يطاردونه، وما إن ابتعدوا حتى فوجئ الأهالي بصراخ
عويشة الدبّاغة أم منى بنت لبخيت ..
يتبع إن شاء الله



رد مع اقتباس