عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 03-05-2012, 12:35 AM
زاهية بنت البحر زاهية بنت البحر غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 134
افتراضي 8

ربما كانت السَّاعة الواحدة ليلاً عندما استيقظت العجوز فزعة، تتقاذفها الأوهام، هبَّت من فراشها، أشعلت نور المصباح الكهربائي، وخرجت من غرفتها إلى فسحة الدَّار.
أحست برهبة، اقشعر بدنها وهي تسمع صوت الرِّيح كعواء الذِّئاب يزداد حدَّة باشتداد اهتزاز أغصان الأشجار التي تغطي فناء الدَّار.
تفقَّدت عيناها أرجاء المكان، فرأت نوراً ينبعث من حمَّام البيت في الخارج، وسمعت صوت حركة هناك، اقتربت من مصدر النُّور والصَّوت على حذر، من تراه هنا؟ الابواب والنوافذ مقفلة.. أيكون حرامي استغل غياب عادل ونزل البيت للسرقة؟
سمعت أنين سراب، خافت أكثر، ترى هل أصابها مكروه، أسرعت باتجاه الحمام، وعندما وقفت ببابه، فوجئت بسراب وهي تتقيَّأ فوق المغسلة، ازداد خوفها حدة، سألتها: مابك ياابنتي؟
نظرت سراب إليها بتعب وقالت: أشعر بالغثيان ودواراً مزعجاً يا امرأة عمِّي.
قالت العجوز:عودي إلى غرفتك، تعالي، هاتي يدك، سأستدعي طبيب الجزيرة لمعاينتك.
لا أريد طبيباً، إنَّني (وأشارت إلى بطنها).
شهقت أم عادل شهقة كادت تودي بحياتها، سألتها: هل أنت حامل؟
هزَّت سراب رأسها بالإيجاب: منذ مدة قريبة.
فقالت العجوز بعتاب يمتزج بدمع الفرح: لِمَ لمْ تخبريني ألا أستحق منك هذه الفرحة؟
أجابتها بخجل: بلى والله تستحقّيِنها وزيادة، لكنني كنت أخشى ألا يكون الحمل حقيقيا.
رفعت أم عادل يديها نحو السماء تقدم قربان الشكر دمعاً : الحمد لك يارب.. كم أنت كريم.سأزغرد.
استوقفتها سراب ممسكة بيدها: لا تفعلي، جعلتك الفرحة تنسين أننا في وقت متأخر من الليل.
فقالت أم عادل: وليكن لم يعد للوقت عندي حساب.
قالت سراب: حسنا فلننتظر حتى تشرق الشمس، أليس الغد لناظره قريبا؟ أجابت العجوزهذه المرة بحكمة وهدوء: بلى فالعمر لحظة.

العمر لحظة، ولكن كم تضم هذه اللحظة من حوادث فرح وحزن ومفاجآتٍ يرسمها القدر بعيداً عن إرادة البشر؟
قضية أم عادل كانت حلماً حاربت من أجله بسلاح المنطق والأخذ بالأسباب، فهي تريد حفيداً يحمل اسم زوجها هاشم، فما انتصرت بمنطقها، وما تحقَّقت قضيَّتها إلا بإرادة الله، فحدثت المعجزة، وتهاوى المنطق البشري أمام القدرة الإلهيَّة.
رائع هذا الصباح أحست درَّة بفتوة تنمو في جسدها المثقل بسنوات التعب، المحني بهموم العيش، المفرغ من بريق الوعد.
العمر لحظة.. قطع قطار زمنها خلالها محطات كثيرة حاولت أن تنسجم معها بمنطق الحكمة، تحَوِّلُ الحزن فيها فرحاً، واليأس أملاً، ولكن بقناعة المعدم.
العمرلحظة خلعت القناع، ضمها الأمل إلى كتائبه الباسمة الزاهية بالألوان،
ألبسها الربيع ثوباً، والشمس إشراقاً، والتفاؤل وشاحاً.
مساحة الأمل لا تحصرها حدود، فسيحة كالأحلام، شاهقة كالمستحيل، بديعة كالولادة. حملتها فرحتها الوليدة إلى عوالم براقة ساحرة.. حنونة.. فوضويَّة الرُّؤى.. سمعت فيها صوت هاشم يناديها.. رأته يلعب معها.. تحضنه.. تطعمه.. تقبِّله، يهرب منها.. أحبت البداية وكرهت النهاية، وهنت ركبتاها.. شهقت.. أسرعت تمسك به لا تريده أن يهرب منها أبداً.. أبداَ.. خافت عليه في الحلم.. نعم، ولكنَّها ستخاف عليه في الحقيقة أكثر.

لا لن تخبر أحداً بحمل سراب خشية الحسد، فالعيون فارغة لا يملأها إلا حفنة من تراب، وهي لم تصدق أن سراب ستحمل يومًا فلن تتركها صيدا للعيون الفارغة.
الحرص هنا واجب، وسيكون مسلكها، لن تخبر أحداً حتى عادل لن تبعث إليه بالبشرى كي لا يترك السفينة، ويعود، فيخسر المال الذي سيشتري به البيت الجديد، تريد أن تطمئن على سكنه قبل موتها.
تغير المنطق أم هي التي تغيرت؟ فوضى الفرح، فوضى الأحاسيس المتمرِّدة، فوضى اللحظة، ترى من تغير؟ هي تعرف فقط أنَّها يجب أن تكون حريصة في المحافظة على هاشم وليكن ما يكون.
وافقت سراب أمَّ عادل الرأي بشأن إخفاء خبر الحمل.
عجوز قدَّرت وشابة تفهَّمت فكان الاتِّفاق.
إتِّفاق سرِّيٌّ أبرم بين الخريف والربيع فأنجز خيراً.
إنجاز مهم لن يعلم به سوى عائلة سراب، وأخت عادل وجيهة، وبذلك يبقى الخبر طيَّالكتمان.
أسرة سراب لا تحب الثرثرة.
أب صارم حازم لا يجامل أحداً، لكنَّه يحسن التَّدبير، هادئ الأعصاب غالباً، يشكو من ارتفاعٍ في ضغط الدم، لم يرزق ذكوراً.
علية أم سراب سيدة في الخمسين من العمر، عاطفية، من أصل تركي، أنهت دراستها الابتدائية في الجزيرة، تزوَّجت في الرابعة عشرة من عمرها، وأنجبت خمس بنات أصغرهنَّ سراب.
حدَّثت ْعلية زوجها بشأن إخفاء خبر حمل سراب، اتَّهم الجميع بالهذيان، وعقم التفكير، وأعلن براءته مما يعملن.
وبعد كثير من المناقشة والمجادلة، وافقهنَّ على مضض من أجل عادل، وهدفه المادي الذي سافر في البحر من أجله، وليس من أجل الحسد، وقلة عقل النسوان.
قال لزوجته: عجيب أمر النساء والله، كنتنَّ تلهثن وراء الحمل، والآن تلهثن من أجل ستره!
سألته علية: ساعدنا بطريقة تمكننا من ستر الحمل دون قيل وقال؟
فقال متبرمًا: حسبي الله نعم الوكيل من كيد النساء، ومن أفكارهنَّ الغريبة.
فقالت: هذا الأمر لن نختلف فيه أبداً، ولكن أنقذنا مما نحن فيه من حيرة؟
قال بعد تردُّد: لا حول ولا قوة إلا بالله ، اسمعي جيدا إن كنت تصرين على رأيك في كتم الخبر.
قالت بلهفة: قل يارجل وأرحني أراحك الله من أعدائك؟
قال : في الأشهر الأولى لا توجد مشكلة لأن الحمل يحتاج لوقت كي يبدو للعيان، وماتبقى منأشهره تجلس سراب في البيت، ولا تقابل أحداً حتَّى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
سألته: ولكن قد تطول مدة احتجابها عن الناس، فماذا سنقول لهم إن هم سألوا عنها؟
أجاب: لن تعدمن حجَّة، إن كيدكن عظيم.

بقلم
زاهية بنت البحر
__________________
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
مدونتي


http://zahya12.wordpress.com/2010/09...4%d9%87%d8%a7/
رد مع اقتباس