الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #40  
قديم 17-04-2013, 04:10 PM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

ماكان الناس يميزون بيني وبين الطبيب لأناقتي ولياقتي واهتمامي بنفسي، كانت هي جميلة ومدللة من طبقة النبلاء، شعلة طموح وأمل، مرحة بامتياز، تتكلم كثيرا وتضحك كثيرا، لا تزال براءة قهقهتها تتردد في ذاكرتي، كنت أنظر إليها فرنسية أبا عن جد، كانت من النماذج النادرة في مستوى التحضر الراقي.
لما كنا نحن نسكن في المزرعة، أخذتها يوما هناك، فسلبها جمال الطبيعة وسحرها، وأبهرتها العادات والتقاليد، ولولا أني أعرف قبيلتها لقلت أنها فرنسية وتجنست، أعجبت أمي كثيرا فتزوجتها، كانت تذكر أمي دائما بنساء وبنات المعمرين الفرنسيين والإسبان، تزوجتني رغم معارضة والديها، وأقمنا عندهم رغما عنهما، حتى أنهت دراستها، استأجرنا شقة في عمارة، ثم انتقلنا إلى هنا بعد أن انتهت الأشغال.. صمم هذا البيت حسب ذوقها، وكأنها كانت تقرأ المستقبل في حفر الأساس، لا يزال حتى الآن يتسع للجميع، أنظري هكذا البيوت في فرنسا، تدخلي مباشرة إلى الصالون، على الجهة اليمنى قاعة الأكل وبعدها المطبخ ثم الساحة، على الجهة اليسرى رواق غرف النوم، بعضها يطل على الصالون والبعض الآخر في الرواق الذي يؤدي إلى سلم الطابق العلوي حيث المخرج الثاني إلى الشارع الخلفي، كان يظهر لي واسعا وكبيرا جدا، كل هذه الأثاث التي زيناه بها فرنسية، ومن باريس، هذه المدينة التي عشقتها أمك حد الهوس، تعيشها هنا، أمك من الذين يؤمنون أن الجزائر هي امتداد لفرنسا تحت البحر، هذا تمثال جان دارك آخر ما جاءت به من هناك، و هذا قرن بايار. في أول زيارتها لباريس، إشترت هذه اللوحة الجميلة للثورة الفرنسية التي حررت كل أوروبا ومعها العالم... الطابق العلوي شيء آخر، الغرف كأنها زنزانات لا تدخلها الشمس في فصل الشتاء أبدا، بناه جدك لعمك، ووثائق البيت كلها باسمه، لقد ساهم في البناء بأكثر من ثمانين بالمائة، ساعدنا كثيرا، حفاظا على كرامتنا وعلى سمعة العائلة، وسيولد فيه أول حفيد.. تلك أشياء كلها جميلة، أراها تمر في ذاكرتي مر البواسق البيضاء في أفق سماء كانت صافية زرقاء... أحيانا أشعر وكأنني أعيش من أجلها و بها فقط. هنا مسقط رؤوسكم جميعا، هنا ترعرعتم، لا تزال ضحكاتكم تملأ فضاء ذاكرتي المتعبة، وبكاؤكم يمزق من حين إلى حين سكون المكان، أنت فقط كنت عند جدتك، ربتهم الخادمة وحشية، وتبين لنا في الأخير أنها إسم على مسمى، كانت أخبث مخلوق عرفه تاريخ الخادمات، ولولا فطنتي لحولتكم إلى شياطين وأنتم لا تزالون أطفال، تعبت كثيرا لاستعادتكم إلى السلوك السوي، حقيقة كنت قاسيا معكم وحرمتكم من أشياء كثيرة، لكن هي التربية أحيانا تحتاج إلى الزجر والحديد والنار، كانت أمكم تنظر إليكم أبناء أعراب ووحوش، وتحتقر نفسها أنها أنجبت أربعة، تقول دائما كأني أرنب، ربما كما قالت، أنكم الخطأ الأكبر في حياتها، لأن المتحضرة لا تزيد أكثر من اثنين، رغم ذلك ومن أنتم الآن، يشار إليكم بالبنان، أليس كذلك؟.. وهذا كله من فضلي وحسن تربيتي وحرصي عليكم، فقط الأرملة الملعونة خذلتني ولا تزال تصنع خيبتي، ولست في حاجة لأحد منكم...
ابتسمت وهزت رأسها، لما كان هو يتكلم كانت هي تستعيد غطرسته وجبروته وظلمه وقساوته، وحده المرض أقعده وقيده وأطلق سراح الجميع، تذكرت تسلطه، فزاعة في الليل، وجلاد بالنهار، تذكرت لما كان يخرجهم من البيت في الظهيرة ليتمتع بالقيلولة، رغم الحر وأشعة الشمس المحرقة، يبيتهم جياعا لأتفه الأسباب، ويضربهم ولا يسمح لهم بالبكاء، وحرمهم من أدنى عواطف الأبوة، تذكرت أنه كان يطعمهم ما يريد، ويلبسهم ما يريد، وينومهم متى يريد، ويوقظهم متى يريد، وكأن البيت ملجأ لإعادة تربية الأشرار، السوط والعصا هي اللغة الوحيدة التي كان يخاطبهم بها، ويجن عندما يسمع أنينهم أوبكاؤهم، كانوا يتمنون له الموت، موت الجبابرة في القصص والخرافات، لأنهم يموتون بالوهن، تذكرت كيف جعلته أمها يبتلع الكثير من الفضائح، يكتمها ويكظمها رغما عنه ، كطلاق الأرملة ،وشبهات الفيلسوف مع صبيات المدرسة، وإشاعات عن الأم، و أشياء أخرى ، تذكرت كيف كانت تروضه أمها في حلبات أي نقاش، وتظهر آرائه مهلهلة،و تافهة، مفككة تتناثر فوق قدميها، فيستسلم إرضاء لغرورها، في حين ،من كان يجرأ ويذهب إليه لحل تمرين من واجباته،أو يستنصحه في أمر، أو يطلب منه مساعدة ، وبقدر ما كانت تطريه بقدر ما كان يتعصب في معاملته معهم... وأشياء أخرى لا تريد أن تتذكرها من شدة فظاعتها، لأنها تؤلمها كثيرا...
هكذا كانت أمي وأنا في بطنها تسقيني مرارة ماضيها وحاضرها، ممزوجة بالحقد والغضب ورغبة الإنتقام، تنتظر بفارغ الصبر الساعة التي ترميه في دار العجزة، ليذوق مرارة الهوان ولا تزوره إلا مرة واحدة في العام، ستشتري له شريط فيروز ، زروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة، شماته وتراه قد ذبلت فيه هذه الأشياء التي صنعت جبروته الذي لم يرحمهم، ويوم يموت يدفنه عمال النظافة، هي متأكدة أن جنازته لا يحضرها أحد، مثله مثل الفرنسي ينتهي وحده، ينتهي لا شيء، لا حدث، وإذا حضر أهله وأقاربه فمن باب المجاملة والنفاق، لأن أغلبهم في فرنسا لا يؤمنون بما وراء الموت.. هو يعرف أن لا أحد يحبه في هذا البيت..
لما استيقظت من غفوتها وجدته يتناول عشاه بشراهة، فقامت، قبلته على رأسه وانصرفت، وسقط كلامه في سلة المهملات... ليتها تستطيع أن تنقل إليه هذه الصور التي تملأ صدرها كما هي.. أما هو فبقي ينتظر زوجته في الصالون، لما عادت وجدته نائما على الأريكة، فدخلت إلى غرفتها ونامت قريرة العين، استيقظ وشم رائحة عطرها ممزوجة برائحة أخرى يعرفها جيدا، كأنها رائحة خمرته المفضلة، جوني والكير، لم يصدق، لا يزال مترددا، تحاصره دوامة بين الشك واليقين وتهاجمه الظنون من كل جهة، أراد أن يذهب إليها في غرفتها، وتراجع لسبب تنكر له، لا يريد أن يعترف به حتى لا ينظر إلى نفسه ضعيفا، واستطاع أن يتجاوز هذا الصراع وذهب، توقف أمام الباب ينصت لعله يسمع حركة أو أي شيء يبرر به زيارته، رفع يده ثم تراجع، كانت تلك الرائحة هنا أشد وأقوى، ورغم شدة الفضول ولهب الشك والغيرة، عاد إلى غرفته يجر الخيبة والحسرة، وابيضت ليلته وطال مداها، ما رأى أبعد من فجرها في حياته، ينتظر الصباح بأعصاب اشتدت كأوتار للعزف المقتضب، فصعدت نسبة السكري وسقط مغشى عليه، ونقلوه إلى المستشفى، وبعد استقرار حالته عاد إلى البيت.
في مساء ذلك اليوم جاءته إلى غرفته، أخرجهم جميعا واختلى بها، وبدون مقدمات قال لها:
- إنهم أعدوا الفريضة، وسيبيعون كل الممتلكات بما فيها هذا المسكن لأنه باسم أبي.
- وإسهاماتي؟
- سأحاول أن أسترجعها لك، لا أظن أن هناك أحد يعارض، فما رأيك لو نشتري مسكنا في القرية نقضي فيه ما تبقى من عمرنا؟
وكان السؤال الذي أفاض قدح الجواب وأثار البركان الذي يسكنها.
- جننت أو ماذا جرى لك؟.. أنا أسكن القرية؟.. هيا إلى المزرعة أفضل، مع الحمير والبغال والبقر والغنم، ونسكن في كوخ من أكواخكم القذرة، و نأكل الخبز المشوي على فضلات الحيواناتت، و نشرب من حيث يشرب الكلب، و ننام و الدجاج طواف بنا، تتشقق أقدامنا و أيدينا، و تزينها أدران الوسخ، و أطرافنا معفرة بالتراب كالخنازير !!!.. يا للمهزلة، يا للعار، و في آخر عمري !!..ألعن اليوم الذي عرفتك فيه، و اليوم الذي تزوجتك فيه ...اسمعني جيدا، ابتلع هذا القيأ و لا تعد إلى مثله أبدا، إذا شدك الحنين إلى هذه البشاعات، أذهب إليها وحدك، أما أنا فهنا، في المدينة خلقت و فيها أموت، فلا تحاول معي مرة أخرى، و إلا ستسمع مني ما لا يرضيك،.
خرجت كالزوبعة، و لم تدخل إلا مع الفجر، تجاهلها هو مكرها، لا يزال يجتر كلامها، وجد فيه شيئا من المنطق، و في سؤاله شيئا من الغباء، يقكر كيف يرمم ما أفسده من ود بسذاجته، و في الصباح ذهب إلى النزل الكبير، حجز مائدة فاخرة من الصنف الممتاز و عاد إلى البيت مسرورا، في المساء ذهب إليها ليطيب نفسها و يسترضيها، استسمحها و عزمها على العشاء فاعتذرت كونها نفسيا ليست مرتاحة، و واعدته أنها ستذهب معه مرة أخرى، أما الليلة فعندها لقاء رسمي في نفس النزل و لا زالت مترددة، و يحتمل أنها لن تذهب ، فعاد مكصور الجناح، و قبل أن تخرج مرت عليه في غرفته، استودعته و ذهبت...
قام لبس بدلته الجميلة، تعطر،فأصبح جنتلمن بامتياز، حمل عصا بنفس لون الحذاء ،وضع نظاراته و تبعها، كان قد انقضى من الليل ثلثه تقريبا، دخل إلى القاعة، كان الجو رومنسيا جدا، تتسلل الأنغام الهادئة الى الأذواق المحتشنة تحت الضوء الأحمر الخافت، يداعب إيقاعها الأعصاب التي هدهدتها الأقداح و تراقصها الهمسات الأنثوية الحالمة...تذكر أشياء جميلة مرت عليه من هنا، قاده المضيف بكل لياقة و لباقة إلى مائدته، جلس واستوى، سأل النادل عن اللقاء، فنفى أي لقاء في هذه الليلة، سأله إذا كان عنده موعد مع قرينة ، هز رأسه نافيا و الغرابة تأكل مداركه، هو الوحيد الذي كان يجلس وحده، لف ساعده بساعده على صدره و سافر إلى ذلك الزمن الجميل لما كان ملأ عينها و بصرها، لما كانت تتباهى به أمام النساء لبنيته و عنفوانه ، تحاول جذب انتباه الجميع إليها و هي تتأبط ذراعه بحركاتها و قهقهتها ..توقفت الموسيقى، و ضبط الجوق آلاته و بدأ معزوفة رقص الباله، هم بالوقوف، و ترجع، تمنى لو كانت هنا ، يحاول معها و لو غدوة و روحة على هذا الإيقاع المرح و الجميل، أغمض عينيه و ذهب يهز رأسه و يدق بأنامله على المائدة ، يضاهي النغم بدندنته ، و لما قامت رأته جالسا، نزلت عليها الفكرة الشيطانبة، إنها الضربة القاضية، هي تعرفه جيدا، مثله لا يقتله أجله ، بل وحدها الغيرة تصنع نهايته ، و تدمر دخيلته ، وماذا عساه أن يفعل ، إنه نصف ميت، أعرابي لا يصلح لشيء، ابتسمت ، مضمضت فمها بالشمبانيا ، و أخذت بيد فارسها إلى الجهة التي كان يجلس فيها زوجها، كانت تضع خدها على صدره، يد في يد،و الأخرى في ظهره ، يتحركان كأنهما جسد واحد، تنفصل عنه ثم تعود إليه، يدها في يده تأتي الى صدره تجاريه خطاها بخطاه، تبتعد قليلا ، ثم تلتسق به و تعيد، أبهرت الحضور برشاقتها و لطافة حركاتها ،ماهرة في الرقص ، تنظر إلى زوجها و هو يختنق حسرة و غيظا، تبتسم إليه و تلاطف فارسها بليونة السادية...توقفت الموسيقى ، صفق الحضور ،و عادت معه إلى مائدتها ، تقدم أحدهم ، انحتى ، قبل يدها، غمرها ببسمة عاشق ، شكرها على الأداء، وانصرف .. سقط زوجها على الأرض مغشيا عليه، أدارت وجهها تشمئز من سذاجته ، حملوه ، طلبوا سيارة اسعاف و نقلوه إلى المصحة.
...يتبع...
رد مع اقتباس