الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #35  
قديم 05-04-2013, 08:20 PM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

الماء في القرب، و الوجبات تقدم في أواني تقليدية جميلة جدا، لكل أكلة آنيتها، كأنك في متحف نفخ في التاريخ الحياة من جديد، مكان يتردد عليه السواح كثيرا، لا تزال جدتها تذكر ذلك اليوم الذي أتت بها هنا، وتناولت معهما غذاءا أعرابيا، في جو كاد يبكيها سعادة، تقول لها دائما مازحة، جدتي أكلت بعينيها أطيب ما تشتهي في عمي قدور، تعني الرجل، فتقول لها.. أسكتي، أسكتي يا شيطانة، يا خبيثة، وتضحك بكل ملامحها، فتقول.. والله يا جدة، أنت أجمل منه ولا نقبل به لك ولو بحمل ذهب.. فتضحك الجدة حد الغرور...
تمتزج فيها الكآبة بالدعابة فتتصرف أحيانا بعدوانية الطفل المشاغب، فيتوقف عن مجاراتها، وتردها وخزات صمته المفاجئ ، وزخات نظرته إلى اللهو ببراءة من جديد، تستسمحه وتحولها مزاحا... عندما تختلي بنفسها في غرفتها، أشعر أنها متضايقة مني حد الضجر ، وأني ذلك الحمل الذي يثقلها ويزعجها ويحرمها من التمتع بأجمل أيام عمرها، وأنها نادمة على الحمل بي حد الإختناق...
ليتها تسمعني، وتنصت إلي كصوت حق ينبعث من عمق أحشائها، وتعرف أنني تلك الحلقة التي تصنع التواصل لوجودها.. يا ليتها تنصت إلى نداء الإستمرارية الذي يؤسس للمستقبل، وأن مثلي بين يديها مسير لا مخير.. يا ليتها تسمع إلى مناجاة أسرار الكون التي قذفتني في رحمها لأكون ذلك الذي تريده هي...،هي التي همها الوحيد تفريغي لأنني الخطأ، تسقيني مرارة سواد باطنها المدلهم أقداحا، وشهد نهار ظاهرها لغيري كؤوسا بيضاء لذة للشاربين، تسقيني أجاج عبراتها ليلا، وزلل عباراتها تتدفق لغيري أنهارا، لا أستريح منها إلا عندما تنتشي بالثناء والمجاملات، وتنساني، أتوقف عن الحركة أحيانا حتى تشك أنني مت، فتفزع إلى الطبيب فيطمئنها، ولما أتحرك تتأوه وتلعنني، أحمل الكثير من آثار صدماتها وتهور نزواتها، وشر غضبها وفواجعها، يأسها، إحباطها، تشاؤمها، عصبيتها، أخشى أن أكون يوما صورة لباطن هذا البركان الذي لا يطلع عليه غيري، وسأخرج ثائرا أصرخ، أمزق سكون النفاق واغتيال الحقائق، سيضحكون وسأبكيهم يوما ما، لأني مركب من بؤس أمي وانهزامها وإحباطها، ومقتها لنفسها، وكل الأشياء التي علقت بداخلها، أشياء لا زلت أذخرها... أنا وحدي في هذا العالم المظلم الذي لا يفهمني فيه أحد ولا يسمعني أحد، ولهذا سأصرخ عند خروجي احتجاجا على صمتهم وإهمالهم، سأرهقهم صعودا ونزولا، ربما أنتقم لها ولم لا، تلك هي عدالتهم ونظام حياتهم، ، أو أنتقم منها، إني أشعر أن هذه الخلايا تتغذى من دم فاسد، وتتنفس العفن الصعداء، وتجتر شيئا فظيعا لم تخلق لأجله... بدأت أفكر وتأكدت أنني موجود، وأن الحياة غير ما كانت عليه الروح، وبدأ في ذاتي صراع بين قوتين تجذبني كل واحدة لأكون منها، تكافأت لهما الفرص في داخلي، وتفاوتت خارج أمي ، وضاع الإعتدال بين التناقضات التي تصنعها أمي، فاستسلمت للتيار القوي يجرفني إلى خارج هذا القبو الذي ضاق بي وضقت به، وأنا في هذا الجدال، كانت أمي تتناول مع أبي مبردات على حسابها، لم أكن أعرف أن هذه النقود هي التي تتحول إلى دم تقوده حيثما تريد، حتى قالتها أمي لأبي في صيغة المتعجب، حاولت أن أتصور العملية، كانت رهيبة جدا بمفعولها، من هنا فهمت كيف يكون المخلوق مسيرا، أردت أن أصرخ لأكون أنا، ولكن يا حسرتي، من يسمعني في هرج الغوايات التي تسكن أمي، فسكتت وقال لها أبي.
فكيف بأموالي أنا التي أكتسبها من أجمل وأفخر حانة ورثتها من أبي .
ضحكت وقالت:
- أخشى أن يخرج إبنك من فمي.
- إذا خرج من فمك نبرره بحصائد لسانك، و إذا ثمل سيضيع و يستدعي عملية قيصرية،
- في كل الحالات، أنا التي ستدفع الثمن
- إنها سنة الحياة، لا تخشي شيئا، سأكون بجانبك، أرجوك لا تزرعي القلق في ذاتي، الذي يهمني الآن هو أنت.
- لو أجهضته هل كنت ستحبيني؟
- ولم لا؟ !.. ليس لي سواك، ولن يعوضك أحد، أما هو فإلى الجحيم إذا استدعى الأمر نجاتك بثمنه
أخذت يده، قبلتها ،وظهرت لمسات التأثر على وجهها، وصلني هذا التفاعل كهبوب نسمات الصقيع، فتقوقعت وشعرت لأول مرة بدافع بكاء البؤس والحزن والأسى... وهما كذلك حتى رن جرس التلفون ففتحت..
- نعم..مساء الخير...
- متى؟ يا الله !.. مات جدي بسكتة قلبية
- متى؟
- الآن...هذا أبي كلمني، هيا بنا.. خمس وثمانون سنة فيها بركة.. نذهب إلى البيت وغدا نذهب لحضور الجنازة.
كان البيت خاليا إلا من الفيلسوف ، تركوه حارسا. إمتعض لما رآهما وظهر عليه نوع من الإرتباك...
- أنتما لا تعزيان ولا تحضران الجنازة، أم هي المواقف خالية من المصلحة؟..
لم ترد عليه، وجرت زوجها من يده إلى غرفتها وأغلقت الباب....
كانت هذه الليلة هي أطول ليلة في عمر الفيلسوف، كل الإحتمالات التي أخذ بها كانت واهية، ودخله الشك وبدأت الغيرة تمزقه، شرب نصف زجاجة خمره ، وصعد السلم يترنح، دق عليها الباب، ففتحت بسرعة، أدخلته، كانت في ثياب النوم، أجلسته فوق سريرها، تحاول أن تسكته حتى لا يحدث فوضى توقظ الأطفال، ولما احتضنته ليهدأ، دخل أولادها، وتيقن الظن، وقفوا جميعا أمام هذا المشهد الذي خلد الخيانة في ذاكرتهم إلى الأبد، وقفوا ظنا أنه أبوهم، فإذا به إ بن عمهم في سرير أمهم، وسجلوا بحضورهم هذا ، شهادة ميلاد الكابوس الذي سيطارد أمهم ليلا ونهارا، وأصبحت من تلك اللحظة تحت شفرة فلطة لسان... قامت، أخرجتهم بعصبية، أعادتهم إلى غرفتهم،توعدتهم ، ثم عادت إليه واستطاعت بصعوبة أن تقنعه بالعودة إلى غرفته ،واعدته بأشد الإيمان أنها ستلحق به فور نوم الأطفال، و قبل أن يخرج قدمت له شرابا وضعت فيه نفس المنوم الذي وضعته لعمه في اليلة التي ذهبت عنده، أنزلته إلى أسفل السلم، ولما رأته دخل إلى غرفته صعدت. ألقى بنفسه فوق سريره حتى طلعت عليه الشمس، فوجد نفسه كمدمن بات على قارعة الطريق، يستعيد بصعوبة ما فعل البارحة، خرج فوجد باب السلم مغلقا، لقد خرجت إلى عملها، الجنازة لا تعنيها، هو يعرف ذلك، فعاد إلى غرفة الحمام، غسل وجهه ، رمى غرفتين فوق رأسه، وأخذ المنشفة يفرك شعره ووجهه بقوة، لا يزال في حالة غليان، عرج على المطبخ، لا أحد ولا شيء، عاد إلى غرفته لبس بذلته وخرج...
ومرت مراسيم الجنازة في هيبة ووقار، وتوافد الناس إلى بيت العزاء، وفي المقبرة بعد الدفن تقدم أحد الأعيان وخطب في الناس خطبة لتوديع عالم جليل، ومجاهد كبير ، كان المجد الذي صنعه الخطيب من رمل، وبمجرد التسليم، إندثر وأذرته الرياح...
وبدأ كلام الجد في تقسيم التركة، و كان الفيلسوف هو آخر من وصل ، و أول من أثار هذا الجدل في المقبرة ، لما عادوا إلى اليبت كانت أشياء كثيرة قد اختفت، وكادت تكون الحالقة لولا حضور أهل القرية والضيوف المعزين، وقبل ثلاثة أيام تفرق الجميع، كل الى بيته ليجمع كيده ثم يعود، وفرح الأطفال الذين كان يجلدهم المرحوم في الكتاب.
لما عادوا كانت الأم تستعد للخروج، دخلت عليها الأرملة، هكذا يلقبها الجميع نكالا، وقالت:
- نسيت أن أسألك، هل تعلمي أن ابنتك حامل؟
- حامل تقولين؟ !... غير صحيح !!
- وأبشرك، إنه ولد.. هكذا قال الطبيب
- أنا جدة ؟؟؟... أبدا إلا هذه... السخيفة، الساذجة، أعرابية... لماذا أخفيتم عني الخبر؟
- إسألي الجدة، أظن أنها على علم بكل التفاصيل... إنه ثمرة الخطوبة... أنت يا أمي مثل الحية، لا تحفري جحرا ولا تبيتي في العراء، لو كنت مكان زوجك لتزوجت امرأة أخرى وأنت آخر من يسمع
- يتزوج؟... يحطم سمعتي ويهين كبريائي؟... إلا هذه.. اطمئني لن يفعلها حتى لوكان حظه في الميراث مال قارون، لقد روضته مثل بغل الأعرابي، أنت لا تعرفي أمك.
- هو سعيد جدا بهذا الحمل، ينتظر أن يكون جدا على أحر من الجمر.
- وقح... سينتهي في دار العجزة قبل الأوان، إنها لعنتك لاتزال تطارده... لو لم أكن حاضرة لقتلك ليلة زفافك...الأعراب لا يهمهم في المرأة إلا أسفل الحزام، تم شرفهم وعزتهم ورجولتهم... أغبياء
- أرجوك يا أمي ساعته نحس، لا أحب أن أسمع عنه أكثر.
فتح الباب، وقف في العتبة وقال:
- جلسة مغلقة؟
نظرت، ابتسمت وقالت:
- آه، تذكرت أنك نشأت في الخيمة، لا باب، ولا بواب، ولا آداب.. يا رجل حديث نساء لا شأن للرجال فيه، مجرد تفاهات كما تقول أنت، كيف حالك اليوم، هل تناولت الدواء؟ رأيتك قبل الأمس مرهقا...
خرجت الأرملة، وجلس هو على الأريكة بعد إذنها، وتنهد وقال:
- بدأ يقلقني هذا المرض، لا يزال يتطور من يوم إلى يوم
- لأنك لا تقاوم الحلويات، حتى الأنسولين لن يفلح فيك يوما
- بالعكس بدأت أشعر أني بدأت أفقد الشهية
- إذا زرت الطبيب وأعادها لك، أرجوك لا تعود من هذا الطريق لأننا سنرحل
ضحكت، وضحك حتى بانت نواجده، وضع رجلا على رجل، نظر إليها وقال:
- لم تتغيري كثيرا، لا زلت جميلة... اقتربي.. تعالي..
نظرت إليه، أشاحت بوجهها وقالت:
- وأنت خرفت يا رجل، عندما شاب علق عليه حجاب.. قم.. قم.. أنا معزومة الليلة على العشاء، سأدخل متأخرة إذا طابت الجلسة، لقد تأخرت.. هيا..هيا
- كم أتمنى أن نتعشى سويا، ونسهر ونعود متأخرين... مثلما كنا زمان
- بشرط، نشرب، وندخن ونرقص،.. هل تقدر
هز رأسه نافيا واغرورقت عيناه
- أنت لا تقدر حتى على الوقوف نصف ساعة وتريد... مسكين... غدا نتعشى سويا هنا في الحديقة، نشرب لبن وأرقص لك وحدك... هيا... هيا أذهب لترتاح قليلا، أراك حزينا لموت أبيك ومرهقا من السهر.
حملت سفطها، داعبت خصلات شعره، خرجت وتركته جالسا يجتر الماضي الذي لا يزال يعيش عليه، أخذ السكون بمجامعه الصاخبة، تنحره الغصة تلوى الغصة على ما فات من العمر ولا يعود، والغرفة ترد صدى رقة نبرتها الفرنسية، مرت بخلده أبيات للشاعر الفرنسي لافوتان، ابتسم من سذاجته وقام...
كان وهيج عطرها الباريسي يغمر الرواق حد الإنتشاء، تمنى لو كان معها ليفعل أشياء كثيرة كان يفعلها في شبابه وقبل مرضه، رأى أيامه تذبل أمام عينيه، وعجز حتى على أنعاشها في نفسه بالكلام، يتساءل هل فقد مبررات الحياة الزوجية إلى هذا الحد ، وهو الآن عالة على امرأة اشتعلت كهولتها بالحيوية والنشاط و حب الحياة ؟ !
عاد إلى الصالون وجلس ينتظر العشاء... يستعيد ببطء كلامها ويجتر، أيقظت فيه بعض الكلمات والحركات شيء من الفضول حد اهتزاز الثقة، هذه الزوجة التي كان يراها متحضرة ومندمجة ومثقفة، تترفع عن الدنايا، يزينها الوفاء والإخلاص، أصبحت في نظره مهددة ويجب عليه حمايتها، وبدأ يفكر في الأمر بجد... وظهر له أول شق في جدار المودة الذي كان يراه متينا، يتحسس المواضع التي يمكن أن تأثر فيها الضربات التي تأتي من الخارج، يجب أن يرمم أي تصدع يظهر حتى لا ينهار كل شيء وتتفكك الأسرة.
جاءت إبنته تمشي كالبطة المثقلة، بطنها إلى فمها، كأنها تحمل توأم، جلست بجانبه وابتسمت فقال لها:
- قومي واجلسي أمامي، هنا على الأريكة، الذي تحبه إجلس أمامه والذي تصحبه إجلس بجانبه، والحديث بدون معنى كالطعام بدون ملح...
انتقلت، استوت وقالت:
- كيف حالك؟
- أغور شيئا فشيئا
- لا بأس عليك
- وأنت كيف حالك؟
- حال الحامل يا روحي
- بدأ هذا العام الخريف باردا، فحافظي على نفسك يا بنيتي، أتمنى أن يطول عمري حتى أكون جدا، سأعجبك ، سترين
- لماذا تقول هذا الكلام؟، أنت لا تزال كهلا ولولا السكري لزوجتك بأربع جميلات
ضحكت وضحك حد القهقهة وقال:
- إلا هذه، ستموت أمك بالغيرة علي، تصوري إنها متعلقة بي كالرضيع بأمه، إنها تحبني كثيرا، تحدت والدها وتزوجتني...
وبدأ يثني عليها في الخلق والخلق وابنته تنظر إليه بعين الشفقة والرحمة لدرجة أنه أحس أنها تعرف أنه يبالغ ويزايد، فبدأ يبرر بعض تصرفاتها بتقصيره معها، وخنقته الحسرة فسكت.
- لا عليك يا أبي أعرف أنك تحبها كثيرا وهذا من حقك ومن حسن حظها، أمي امرأة متحررة، تتحرك كثيرا، خيبتها ليست فيك وإنما سببها المرض، لا تستطيع أن تجاريها، ولا تخشى عليها، إنها قوية جدا وتملأ الفراغ كله..
- أعرف ذلك، أنت الوجه الآخر الذي كانت عليه لما التقيتها، بزيادة مفرطة في الغنج.. تعرفت عليها في المستشفى، دخلت إثر حادث مرور لبعض الإسعافات الأولية، وكانت تتكلم فرنسي كثيرا، كنت الوحيد الذي تجاوب معها، فربطت علاقتي بها ببعض الكتب والروايات الكلاسيكية في الأدب الفرنسي، كنت أحسن الفرنسية أفضل منها، أبهرتها فتعلقت بي، كنا نقلد الفرنسيين في كل شيء حتى نظهر أمام الجميع قي قمة التحضر، هي واصلت بصفتها مدرسة وأنا تراجعت قليلا بحكم مهنتي والمحيط الذي أعمل فيه، أغلبية المرضى من الأحياء الشعبية والأعراب حيث كانت تكثر الأوبئة في مختلف المواسم
...يتبع....
رد مع اقتباس