الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #34  
قديم 04-04-2013, 02:13 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

، وحرر الظن الجميل ما جبلت عليه النفوس، ومسكت اليد باليد وبدأ العد..
- ما الذي أخرك إلى اليوم؟
سؤال زلزل كيانه، وأيقظ في نفسه تلك الأسطورة التي صنعها اللقاء وزينها الأمل يوما...
- هل كانت أجمل مني؟
استوى على كرسيه، وأدار وجهه، ينظر إلى حوض فيه سمكة
- نعم جميلة جدا، خلقا وخلقا، كانت تسبح في ذاتي التي وسعتها، كانت ملأ العين والبصر...
يستعيد جمال الماضي الذي أهل في ليلة من تلك الليالي الجميلة، وجعلته بدرا أضاء كون حياته زمنا، وشاء القدر أن تنحني الأيام لتصنع منه عرجونا قديما، كما بدأ عاد إلى الأفول، هكذا تعلم الصمت، و الصمت أحيانا سلاح العاجزين... شبك أصابعه، إنحنى إلى الأمام وقال:
- أتعبني ذلك الشارع المحفوف بأشجار الصفصاف، الذي كان يربطني بالمركز الطبي للمرض الخبيث، كانت تفنى أمامي، وبسمتها تتحدى جبروت الأيام وألم السنين، تستسمحني نظراتها، وتستعطفني نبراتها، وهي ترسم على وجهها لمسات الغروب بالصبر الجميل، يستأذنني فيها كل شيء وهي تحتضر، أخذت يدها، دعوت، توسلت، صرخت، بكيت، وكان القضاء أقسى فرحلت، وبقيت إبتسامتها، حركاتها، لمساتها، بل حتى قهقهتها تتجلى فيك، كنت أنت ممن خلق الله من شبهها أربعين... يوم التقيت بك كانت تعيش هي المرحلة الأخيرة، وكان قد حكم عليها القضاء بالفناء، كنت أنت صورتها وأنا معاناتها، أنت ضحكتها وأنا دموعها، أنت كلامها وأنا صمتها، أنت فرحتها وأنا حزنها، أنت حضورها وأنا غيابها، كنت ألقاك دائما في حالة سكر حتى لا أشعر بمخالب الجحود و هي تمزقني، وكان الصمت سلاحي الوحيد، أحارب به دوافع البوح الجميل الذي أختزنه لك لينصهر أكثر بنار الصدق والوفاء، ألقاك دائما لأنك الوجه الآخر الذي وشمه الوفاء في نفسي، كأنك هي، الشيء الوحيد الذي أفتخر به حتى الآن هو أنني حافظت على صدق مودتي لك، لأن فيك وجدت الإمتداد الذي بدونه لن تواصل الحياة في نفسي مسيرتها، وبدونك يتعطل الكون كله في ذاتي، فقط لا تستغربي إن قلت لك أني أحببتك لأنك أنت... لقد سلبني الموت أشياء كثيرة، ولا أظن أن الحياة تسلبك مني يوما ، فأخسر كل شيء... وليس لي إلا الوفاء، ليس لي إلا ذاك... لأنه سبب وجود كل الأشياء الجميلة في هذا العالم .
لما نظر إليها وجدها تخنق الدمع في عينيها، والعجب يكسوها، أما في عينيه كان بصيص أمل ينتظر أن يؤذن له بالبزوغ... سكت ولا تزال كلماته تتردد في عمقها، يرد السؤال صدى الجواب، وينزل الصدق في مقاماته التي كانت تسكنها الحيرة والشكوك، وامتلأت فراغات الظنون باليقين وسكن كل شيء في الذات ....
- هل أحببت رجلا قبلي؟
- ماكانت هذه القلوب لتبقى فارغة، فقط ليس مثلك
- يقال أن قلب المرأة أضيق من قلب الرجل
- لأنه لا يتسع لأكثر من رجل واحد، وهذا سبب شقائها
- أراك أخلص مني
- الإخلاص غاية قبل أن يكون وسيلة
- متى ندركها؟
- عند اللارجوع
- حتى بعد الموت؟
لتبدأ الحياة من جديد، لأن الإخلاص لا يموت، بل تصهره التجارب وتجدده.
قام فوقفت، أخذها من يدها، وضع ذراعه على كتفيها وخرجا.. لقد تنفس في حياتهما صبح جديد... ليتواصل سر الوجود في رجل وامرأة... وهل الكون إلا الرجل والمرأة؟...
تحركت أنا يمينا، تحركت شمالا... وشعرت بالغربة في هذا القبو الضيق والمظلم، وانشغلت أمي بأبي حتى نسيت أنني موجود، همها الوحيد إرضاؤه، تحرص كل الحرص على أن لا تضيع أي لحظة من هذه اللحظات الجميلة التي استعادت فيها كينونتها وكيانها بعودته، تتجاوب معه في كل شيء، وسكنني هاجس الفضول لمعرفة منزلتي منهما، إلا أن اهتمامهما ببعضهما حال دون كل حيلي، فخسئت، وكرهت هذا الرجل الذي وضعني على الهامش، كانت خطى أمي المتسارعة تقرع في رأسي كأنها ضربات المطارق، آلمتني نقرات كعبها واهتزاز بطنها، وتمنيت أن يصيبني مكروه لما عرفت أنني نتيجة تركيبة بيولوجية مجردة جاءت تلقائيا، وأن حياتي كانت مرهونة بأنانيتها وعزة نفسها، ومقابلها أنا لا أساوي شيئا... فكرهتها أكثر فأكثر، وازداد كرهي للحياة...
واستطاعت أمي أن تستعيد توازنها ومنزلتها وثقتها بنفسها، يحافظون عليها كشربة ماء بين يدي ملهوف، وهي تنتظر بفارغ الصبر أن تتخلص مني، ضاقت بي ولا تزال تلعن الساعة التي حملت بي فيها، تتفقد جسدها وتتابعه يوما بيوم، بالكريمات والمراهم، لا يمر عليها أسبوع لا تزور فيه الطبيب، تلعنني في كل حركة وفي كل سكون... تخفي ضيقها بي بقولها لا تحب الأولاد، كانت تتمنى لو كنت بنتا، كلما يراها القاضي يبتسم، فكانت ابتسامته تحطم كبرياءها، وتبتذل زوجها في نظرها، فيزيد كرهها لي، حتى بدأت تفكر في الإجهاض، وقامت بمحاولة ولكن شاء القدر أن أنجو من محاولة اغتيالها، و شعرت بأنها سببت لي خللا ما، لم أتبينه في حينه، وعندما يدخن أبي أشعر أنني أختنق، ثم أدمنت على تلك الرائحة، أنتظرها كل مساء، لم تحترم الحمية التي نصحها بها الطبيب، أسأل نفسي لماذا هذا التهاون والإهمال الذي يمكن أن يؤدي إلى هلاكي وهلاكها، ولم أدرك سر ذلك الشيء الذي تعلمته معها هو أنها لا تتصرف أبدا من فراغ، بقدر ما كان أبي متحمسا لي بقدر ما كانت هي تنبذني، أحيانا أشعر بها تنظر إلى بطنها وتحدث نفسها، بكلام غريب... عتاب، ندم، حسرة... حتى تكاد تمقت نفسها وتنبذها، رغم كل ذلك لما أشعر بها تبكي، أحن عليها وأشفق عليها خشية أن أكون أنا السبب، تمنيت أن أدرك هذه الحقيقة قبل خروجي، ولكن ماسمعتها أسرت بها لأحد.. إنها تتعذب، خاصة وهي في حضن أبي، بين يديه كالعبد بين يدي سيده، بل أذل.
كان بيت الزوجية موحشا، يسكنه الصمت ومجرد من الدفء، فعادت إلى بيت أبيها إلى حين وضعها، تلازمها الجدة كالظل، بل أكثر من ذلك كالبوديجارد، سعدت كثيرا العجوز لما علمت أن حفيدتها ستأخذها لتعيش معها ما بقي لها من العمر في عزة وكرامة، ردا لشيء يسير من الجميل، وجعلتها تحس أكثر فأكثر بضرورة وجودها، وأنها لا تستطيع أن تستغني عنها...
يأتي إليها كل صباح، يأخذها إلى العمل، كأنهما طفلين في طريقهما إلى المدرسة، يحتويها بسعة مرحه وبسط بسمته وحديثه الممتع، ملأ كل الفراغات، وفي المساء لا تدخل إلى البيت حتى تجوب معه كل الشوارع والأماكن الجميلة التي ترعرع فيها حبهما، حيث تنتعش الذكريات .تروّح عن نفسها وتبلسم وخزات الماضي، نادرا ما تتعشى في البيت، كان يعجبها كثيرا مطعم العم قدور، ذلك الرجل القصير والعريض، المشمر دائما عن ساعديه، بمئزره الأبيض تضاهيه بشرته النظيفة، على رأسه الأصلع والغليظ قبعة بيضاء، أمهر طاه للأطباق العربية الأعرابية التقليدية، قدوره على الحطب والفحم، لكل نغمته وإيقاعه، تجرك رائحة الطعام جوعا لا يقاومه أحد، قاعة الأكل جناح من الطراز العربي الصحراوي الأصيل، والجناح الآخر على الطراز القبائلي الجميل
...يتبع....
رد مع اقتباس