الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 10-03-2013, 12:46 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

سكنني هاجس الفضول، وأصريت على معرفة حقيقتهم جميعا...
الجدة امرأة على المقاس القديم، بيضاء، طويلة حتى انحنت، بدينة شيء ما، شامة وشم على خدها الأيسر، لا تزال لمسات الجمال البدوي تتحدى الزمن، حجت البيت الحرام، دائما في لباسها الأبيض و في يدها مسبحة، تتمايل في مشيتها كاليخت، تحرك كتفيها يمينا وشمالا تبخترا، فيض من حنان، ثرثارة بامتياز، كاحلة العين، والشعر تحت الشال أحمر حني. تزوج الجد امرأة صغيرة عليها فهجرته، وجاءت تعيش عند إبنها البكر، السحر عندها هو القضاء و القدر، حتى وجع الضرس سحر ، و الجدال سحر ن و الغضب سحر ، فتأتي بشيء من الرصاص تذيبه ، وتسكب الماء في مهراس، تضع فيه الحناء، وتفرغه عليه وهي تصلي على النبي وتقرأ كلاما لا يفهمه أحد، فيحدث انفجاره فيه أشكالا وتخرج منه بقايا وأوساخ، تقرأ عليها الجدة للمصاب بالسحر في اعتقادها العجائب والغرائب، ورغم ثقافة زوجة إبنها فإنها لا تزال تؤمن بذلك حد الهوس و تحسب لحماتها ألف حساب، تقول السحر حق، وتدعي الحكمة في إبطاله ، يلجأ إليها الجميع دائما قبل الطبيب...
ذهبت إلى غرفتها في تلك الليلة... هنا ينتعش الماضي، وتزدهر الذكريات وفي متعة الحديث تطيب الشجون، ويشتد الحنين إلى الأطلال، وترحل النفس لتعانق الأصول، شهامة رجال الأمس هنا يفتخر بها ، وعزة نسائه فيها تتجلى، هكذا يقولون عنها، إنها ذاكرة العائلة، على لسانها يصنع الواقع مجد الأمس بالأسطورة، ويباح للسر أن يتنفس الصعداء، لا تزال تحتفظ ببعض الأدوات المنزلية التقليدية القديمة ، تزين بها غرفتها... وجدت عندها حفيدتها، كانت الجلسة خاصة، دخلت عليها وهي تقول لها:
يا بنيتي، رأيتك تتقيئين ولا أثر للوجع عليك، تتصرفين مع حالتك بطريقة عادية جدا ، هل عندك مشكل؟... صارحيني، سأخلصك وأسترك، وأنا وحدي التي تستطيع ذلك دون أن يعلم أحد، هذا شيء يحدث لكل الجميلات مثلك، أنا قبل أن يأخذني جدك جرى معي نفس الحدث، واستطعت بمساعدة أمي أن أروض جدك ويتزوجني ويسترني... إييييه يا ابنتي، تذكريني بأيام زمان، أقسم سأجعله يسجد لك، فقط أخبريني...
كانت مترددة جدا، تتابع حديث جدتها في صمت المنبهر، وواصلت الجدة لتطيب نفس حفيدتها..
- حتى لو قدر واكتمل سأقتله وأسقطه، اتركي الأمر علي وصارحيني قبل فوات الأوان، كل أعراض الحمل بادية عليك، قولي يا غبية لماذا تريدين المحافظة عليه، ورطك وسيهجرك، تخلصي منه وتجنبي على الأقل الفضيحة، تزوجي آخر وسأتصرف معك في ليلة زفافك كما تصرفت مع الكثيرات من أمثالك..
- يا طيبة قلبك يا جدة، كم أنت حنون، اتركيني أتأكد ونتصرف... ليلتك سعيدة.
رحل شهر مارس، وعادت الطيور التي هجرت إلى أوكارها، وزين أبريل ببواسقه الآفاق، وتلطف الجو أكثر، وأزهر الكون كله، وتغنت به الكائنات، في أول يوم منه نصبت الأم لكل واحد من العائلة مقلبا، واستطاعت بمكرها أن تلفق نوعا من الفواجع المصطنعة، وتملأ النفوس المريضة باليأس، ثم تفرغها لتزيد في رصيد الأحداث التي تزين بها الحديث في جلساتها الحميمية، فهي من لا يمكن لها أن تغفل عن هذا النوع من المناسبات، يتجاوب الجميع معها ،ويتحمل البعض مهازلها ويفتعلون، فكان أغلبهم ملكيون أكثر من الملك، على أن لا يضاهيها ولا يحاديها أحد، هكذا كانت فرنسا ولا تزال، تنشط في منظمة حقوقية، وعضو في جمعية وطنية لتربية الطفل ورعايته، عضو في لجنة أي صياغة للمنظومات التربوية...
الفيلسوف إبنها البكر، أستاذ في علم النفس، مدلل، مدمن هو كذلك على المطالعة بسذاجة، لا يؤمن بالثابت، ينظر إلى الجميع بعين الشفقة والمسكنة، وانطباع الجهالة، لا يستطيع أن يجاريه أحد في الكلام، يجمع كل المتناقضات الثقافية التي تساعده على الخروج من كل مأزق يوقعه فيه استرساله المتحول، يحفظ الكثير من النظريات والآراء عن ظهر قلب، يلقبه تلامذته بالسفساطي، وعند زملائه مجنون، مدمن على القهوة والتدخين،يتغنى برنين كؤوس و أقداح الصهرات ، يطلع عليهم دائما بمظهر المفتش كولومبو من بعيد، ويذكر الكثير ببطل رواية الأبله، أو العسكري شفيك، قصير القامة، ممتلئ، أسود الشعر، غليظ الشفتين، صغير الأنف، يتأبط محفظته السوداء، في بحث مستمر عن قلمه ونظاراته، تطلع من فمه رائحة مزيج القهوة والتبغ نتنة، حتى لا يكاد يواجهه أحد في الحديث معه، لا يتوقف عن الكلام. أمه تلقبه بيوسا 2 مؤلف رواية ( مديح الخالة )، تفتخر به، فقط لا يعجبها تعربه رغم أنه يحسن الفرنسية بامتياز، مثله مثل أخته أمينة الضبط، تقول عنهما، أحبهما أقل، ولا أحب فيهما هذا الخليط الذي من أجله كرهت أبي، تقول لهم ، انظروا، الرقص فن عند كل الأمم إلا عند العرب فهو جنس، و تضحك، هكذا كان يقول أستاذ اللغة الفرنسية..
- أليس كذلك يا فيلسوف؟... وتضحك.
كأنها ضغطت على الزر المناسب، فبدأ محاضرته في فن الرقص من هزة المهد إلى رقصات الآلهة وشطحات الصوفية... هي لا تستمع إليه ، كانت حينها تنظر إلى إبنتها التي سرحت بعيدا، تفكر في ذلك الرجل الذي انقطعت أخباره وتغمده الصمت الذي يصنع دائما حيرتها.
القاضي الذي كانت تعول عليه تخلى عنها، رفض الأمر جملة و تفصيلا ، واتهمها بمقلب لن يبتلعه بهذه السهولة مهما عملت ، وهو لا شك ينتظر الفرصة التي يحيلها فيها على البطالة، وبدأت تراودها فكرة الإنتحار، إنتقاما من سذاجتها وتهورها، هي التي كان يضرب بها المثل في الصرامة والجدية والإستقامة من بين أفراد الأسرة كلهم، و جدتها رغم حرصها لا تستطيع أن تصون سرها إلى الأبد ، فمن الأفضل لها أن تحمله معها وتختفي نهائيا ، مغمضة العينين تسبح في ظلام الفرضيات لعلها تجد مخرجا آخر... ثم ماذا، إذا كتب لها أن تموت فلا يجب أن تموت وحدها، ولتكن القيامة علينا جميعا... كانت يد أمها أسرع على كتفها ، فتحت عينيها فوجدتها تجلس بجانبها.
- لست على بعضك في هذه الأيام، هل عندك مشكل؟
- إبتسمت وقالت: لا، لا، أبدا، بعض التعب فقط، مع افتتاح السنة القضائية تتراكم القضايا، وتترادف الأحكام، والضغط كله على كتاب الضبط... تعبت، إني أفكر في الإستقالة.
- ماذا !.. الإستقالة؟ ... لا، لا، فإن فعلت فلا تنتظري مني حمل همك، عندي ما يشغلني وما فيه الكفاية، لست صندوق البطالة ولاملجأ الكسالى.
كانت تنظر إليها بكل هدوء، ثم قاطعتها قائلة:
- وهل طلبت منك شيئا!؟ .. حتى في طفولتي تأثرينهم علي جميعا، أظن أني جئت خطأ، هكذا أشعر، لأن أبناء الخطأ هم سبب مأساة العالم، وأظن أن الشيطان إبن الخطيئة، ولهذا يمقته الجميع... كم أكرهك يا أمي ... كم أكرهك.
وجاءت الجدة تجري، احتوتها وذهبت بها إلى غرفتها، يكاد وجهها يتفجر غضبا، تخنقها العبرات، ترد البكاء بكل ما أوتيت من قوة، تقول في نفسها، لن أتخبط أمامها حتى لو ذبحتني.
الأم: اللعنة... ستطاردك لعنتي.
لم تسمعها، كانت قد دخلت مع جدتها إلى غرفتها وأغلقت الباب، ترد دمعتها من حافة الجفون.
...يتبع...
رد مع اقتباس