الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 01-03-2013, 12:57 PM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

أشياء فظيعة لا نراها في عالمنا، وحيرني هذا الجسد الذي أصبح يسيطر كليا على الروح، أين سر قوته؟ وعدنا إلى البيت، وبخروجها من المحكمة عادت إلى طبيعتها، تلك المرأة الجادة، المحترمة، الشريفة، الأنيقة، لا يجرأ أي أحد أن يتجاوز حده معها، هي نفسها امرأة الأمس، دخلت إلى البيت، كان أبوها مستلقيا على أريكته يقرأ الجريدة، ينتظر فنجان شربة المساء التي تعود عليها، أمرد الخدين، ساخط على الوضع، يساعده شنب هتلرعندما يجمع شفتيه ليبدي اشمئزازه وغضبه وهو يقرأ الأحداث المحلية، حديدي الوجه نحيف، بدأ الشيب يغزو شعره، أبيض كأنه ورقة أرمستروج، بدأ يمخره السكري، كان في شبابه لاعب كرة القدم، قدم الكثير لمدينته، رغم بساطة وظيفته كممرض إلا أنه يعدونه من الأعيان، يحبه الجميع في كل مكان، يعزمونه في كل المناسبات الرياضية والثقافية، وفي البيت هو الآمر والناهي، تراه الرجل المحترم بامتياز، يحسب له حسابه، لا يعرف المزاح... قبلته ودخلت إلى غرفتها كالعادة... هنيهة فقط وخرجت مسرعة إلى دورة المياه، تتقيأ، كانت الجدة تتابعها بريبة ، فقام من أريكته ودخل إلى مكتبه، خزانة تسد نصف الجدار، فيها كل أنواع الأدوية ولكل الأمراض، كأننا في صيدلية عمومية، أتى ببعض الأقراص وشراب وتبعها إلى غرفتها.
- خذي هذه أدوية لا تجديها لا في المستشفى ولا في المستوصفات، تناولي هذه الأقراص وبعدها بساعة تناولي هذا الشراب. كثيرة هي الأدوية التي أتوا بها إلى المستشفى لا تقدم إلا بوصفة من الطبيب، هي الآن عندي، مصوا مني الدم في هذا العمل، رن النقال في جيبه.
- نعم، من؟ مرحبا، خير ؟... إذا ما وجدت في الخزانة حول المريض إلى المستشفى ، وهل أنا أحمل الأدوية في جيبي؟ هو مستعجل وأنا ذنبي إيه؟..
أغلق هاتفه ورجع إلى الصالون....
رمت تلك الأقراص، غيرت ملابسها، وجاءت إلى الصالون
- كيف حالك؟
- الآن أحسن يا أحلى طبيب
- عندما أغيب يرتبكون في الحالات الإستعجالية دائما.
- حضورك يا أبي في كل مكان ضروري وأكيد، والمستوصف نصب فوقك، لك فيه أكثر من خمس وعشرين سنة .
- نسيت نظاراتي، وكدت أعطيك دواء انتهت صلاحيته، غدا ساعديني لرمي كل الأدوية الفاسدة ونجدد المخزون، في نهاية الشهر سيزودوننا بحصة الدواء، أعددنا القائمة في الأسبوع الماضي، وننتظر، لن تدخل الأمراض بيتي وإن دخلت فأنا لها بالمرصاد.
قرأت في الجريدة اليوم عن قضية اختلاس في الخزينة، هل قدموهم إلى العدالة؟
- نعم، أطلقوا سراحهم، وطلب وكيل الجمهورية إعادة التحقيق، يظهر أن في الأمر شبهة.
- لا شبهة ولا شيء، هذه جريمة، كان من الواجب أن يجعلوهم عبرة لمن يعتبر، المساس بالأموال العمومية لا جزاء له إلا الإعدام، حتى السجن أصبح اليوم فندق عشر نجوم، هزلت يا للمهزلة!....
دخل الفيلسوف، الإبن الوحيد، حياهم وجلس
- دخلت باكرا اليوم؟!
- زميلي مرضت أمه فتركني وذهب ليأخذها إلى المستوصف، ظننتك أنك الليلة في الدوام ووجهته إليك
- أحسست بالتعب، فخلفت زميلي ودخلت باكرا أنا كذلك....سيقومون بها.
رن جرس النقال في جيب الفيلسوف
- خير إن شاء الله، من؟ آه، مرحبا، كيف حال الوالدة؟
تغيرت نظرته، وبدى على وجهه الإستغراب والأسى
- عظم الله أجركم وحلاكم بالصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون، غريب، مستوصف إستعجالي ما فيه دواء؟! إمها جريمة نكراء... حولوها المسكينة إلى المستشفى فتوفيت في الطريق، لماذا كل هذا الإهمال والتلاعب بالأرواح؟.. جرعة دواء كانت ستنجيها من الموت.
- ماتت؟ الله أكبر، غدا نذهب إليهم، مسكينة الحاجة كنت أعرف أن هذا المرض هو سبب نهايتها، لأنه يتطلب رعاية وعناية خاصة... يرحمها الله... هذا أجلها لا يستطيع أن يقدمه أو يأخره أحد... المرض يا بني لا يقتل ، والدواء لا يحيي .
كنت فوق الساعة قابعا أتابع هذه المسرحية الدنيئة، ممثلوها جبناء وهم أول من يصدق بهذا البهتان، أردت أن أصرخ فيهم...كونوا أنتم....
الأم لم تقل شيئا، كأنها خارج مجال التغطية، جسدا وروحا تقلب صفحات مجلة نسائية فرنسية، إمرأة متوسطة، سمراء تظهر أصغر من بناتها، تضاهي عارضات الأزياء، همها الوحيد المحافظة على وزنها وشكلها ومحاربة آثار الزمن، معلمة اللغة الفرنسية لا يجب عليها إلا أن تظهر كذلك، متفتحة أكثر، مندمجة أكثر، أنوثة بمظهر الضعف، طيبة الكلمات، لطيفة الممارسات، مغرورة في دلع التراجع إلى سن المراهقة، تقدس الرومانسية وتثمن الحب الأفلطوني، تقرأ كثيرا الروايات الفرنسية وتعرف كل أكاديمييها، تفتخر دائما بزيارتها للتروكاديرو، وحدائق اللوفر، ولارك دوتريونف، والحي اللاتيني، والشون إليزي ولاتور إيفل و.. و.. و.. هي لا تعرف باربيس... تقول دائما أن أروع ما قرأت رواية مدام دوبوفاري للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، كاتب سبق زمنه، قرأتها أكثر من عشر مرات، حتى قالت ليتني كنت أنا هي... في كل سنة تذهب مع بعثة على نفقة الدولة الفرنسية، أفنت عمرها في خدمة هذه اللغة ونقل ثقافتها وتلقين تاريخها إلى تلامذتها، أقرب الناس إليها إبنتها الأرملة، طلقها زوجها في أسبوعها الأول بعد الزفاف، ولا أحد يعرف السبب، خادمة في البيت، لا يرحمها أحد سواها، ملازمة لأمها كأنها الظل، إنها علبتها السوداء، تكاد تكون نسخة طبق الأصل لأمها، وجهين لعملة واحدة... العين دائما على العين... قبل العشاء دخلت إلى غرفتها، أغلقت الباب، وقبل أن تنام فتحت كناشا ضخما عليه صورة برج إيفل، تكتب فيه يومياتها، بدأت تتصفحه ثم توقفت عند يومياتها في باريس، وقفت فوق كتفها أقرأ معها لياليها الحمراء، كانت تقرأ، تبتسم وتارة تضحك، بل تقهقه، أشياء جميلة جدا لا تفعلها إلا المتحررة فوق العادة، تلقب زوجها دائما بالبغل، و هو لا يتجاوز وزن القط، في حين هو يفتخر بها حد الغرور، وهي بجانبه يقول لها دائما إنني محسود عليك، لأنه في المظهر أقل منها أناقة ولباقة، رغم تقارب ثقافتهما، تنافس كبير بينهما في المطالعة، لهذا تستشهد به لما تريد أن تتباهى، وتقول وحدها الفلسفة تزيده الفضل علي والطب، وإلا كان سيكون تلميذي، وتضحك، فينظر هو إليها بإعجاب، تلازمه كالسادية، وتتكسر أمامه كالقطة بل ألطف... وأنا يكاد رأسي ينفجر، آه، عفوا، أنا لازلت روحا، لا أعرف كيف أسمي هذا الشيء الذي يؤلمني عندما أرى هذه التناقضات...
.....يتبع....
رد مع اقتباس