[يزيد فاضلي]

...حين يُسدِلُ-أختي البديعة الكريمة وهَـــج الحرف-الموتُ الحِجابَ بين ( البُنـُوَّةِ ) و ( الأبُوَّةِ ) فإنَّ خمائلَ الدفءِ والحنان تغدو في حِسِّ الولَدِ آخرَ زهرةٍ مقصولةٍ يملكُها في واحتهِ،وبقصْلِها تتصوحُ الواحة وتستحيلُ إلى جُنيْنةٍ مُقفِرَةٍ،تبعَثُ دوماً في النفس جراحاتِ الذكرى والذكرياتِ وتبقى الدمعة في المحاجر دائمة الحضور،لا تحتاجُ-حتى تطفِرَ-من الجفن إلى أكثر من استحضار صورة الوالِد..وعِشرةِ الوالد..وربيع الذكريات الذي طَوَى واندرسَ مع رحيله..!!

يَاااااااااااااااااهْ أختي الكريمة..!!

ما أشدَّهُ شَجناً يَخنِق مُهَجَنا الضعيفة لمجردِ أن نغمضَ أعيُننا قليلاً،فنطوي مسافة الذكرياتِ العذبة لوراء،أيامَ كنا زنابقَ برية صغيرة،يحتويها الوالِدُ-رحمه الله-بوارف حبه الأبوي التليد الذي لمْ نعرفْ لسعة الحرمان الشديد من لطافة أنسامه العليلة إلا يومَ أن سجيناه في أكفانه البيض وأودعناه لحدَ الثرى..ومن يومِها انطوى الضرامُ في شِغافِ القلب،يستعِرُّ بين الفيْنة والأخرى كلما تجددتِ الذكرى واستيقظتْ معها تلك الأيامُ الخوالي..!!

نعَمْ أختي الكريمة...

لا يَعرفُ الشوقَ إلا مَنْ يُكابدُهُ ** ولا الصبابة إلا مَنْ يُعانيها..!!

أخالُ-وأنتِ تبثينَ هذه النجوَى الرقيقة الدامعة وتستوْدِعينها أرقَّ وأعذبَ شعور راقٍ وحانٍ-فأتصورُ أن كل حرفٍ وكل لفظةٍ وكل عبارةٍ حِيكَ معناها إلا وهي أصلاً تتقاطرُ معَ دمعَاتٍ سَخيَّاتٍ ساخناتٍ،تتسربُ معها النفسُ المحروقة وتذوبُ على النحو الذي وصفَ به الشاعرُ الحكيمُ سِرَّ الدمع المسفوح عن ألـَمٍ وفراقٍ وحِرْمان :

وليسَ الذي يَجري في العيْن ماؤها ** ولكنها نفسٌ تـــــذوبُ وتقطـُرُ..!!

نعَمْ أختي..أتصورُ ذلكَ وأحسه وأعيه جيداً،لأنني أنا الآخرُ اكتويْتُ بفراق والدي وأنا شابٌّ يافِعٌ،أشق طريقَ حياتي-بمعية إخوتي وأخواتي-ولمَّا يَرتو الخافقُ من ملساءِ حنانه ووجوده بَعْدُ..!!

وما تزالُ كآبة الدنيا-وقد تجاوزتُ الأربعين-تلسَعُ فؤادي بالحنين والاشتياق له كلما طرق طارقٌ،يُثيرُ ذكراه أو يَرحلُ بي إلى ربيع أيامه..!!

ولولاَ العَزاءُ في فقدهِ-بعد الله تعالى الحافظ- بوجودِ الوالدة الحبيبة حفِظها الله فلستُ أدري كيفَ كانت الدنيا ستستمر..؟!! أو على أية شاكلةٍ من جراحاتِ الحياة ستنزفُ وتتراعفُ..؟؟!!

أقرأ-أختي الكريمة-هذه الهمسة الشجية الحانية،فأرى قلبًا جريحاً مكلوماً،يتبلغُ ويمضي في ما خط وكتبَ عن ( ذكرى السنين ) عله يجد سلوَى وعزاءً عن وحشة الدرب من بعد الحبيب الراحل رحمه الله تعالى..!!

ولربما-أختي-حين يُفضفضُ قلبٌ يتيمٌ محرومٌ من دوحةِ الأبُوَّةِ بهكذا نجوَى،يُرتلها بينه وبين نبضهِ في محراب خلواتهِ،مع دمَعاتٍ قريحةٍ صامتةٍ،يستجدي بها الرحيمَ الرحمان-جل جلاله-أن يلطفَ بوجيبه اللاهِبِ..ربما وجدَ من أنسِ التواصل بروح الوالد ما لا يَفقهُهُ أولئكَ السادرون في دهاليز القسوة والمروق والعقوق والجفاء،فتكونُ الفضفضة برداً وسلاماً على قلب صاحبها،وتكونُ عِبْرَة وعِظة لهؤلاء الذين يذهلون عن حقيقة النعمة الربانية بوجودِ والدِيهم أحياءَ في حياتهم..!!

ما من ريبٍ-أختي الوفية الأصيلة-أن أحرفكِ الوضيئة هذه تصلُ-إن شاء الله-كقناديل رحمةٍ مُضاءةٍ بنفحاتِ الوفاء لوالدكِ الحبيب هناكَ في دار البقاء..وما من ريْبٍ أن قبسَة من نفحة روحِكِ هي مَنْ ستبثُّ في تلكَ الأحرف أمداداً من وصْل وتلاق..ألمْ يقلها أميرُ الأنبياءِ وإمام المرسلين صلواتُ ربي وسلامُه عليه : (( الأرواحُ جنودٌ مُجندة،ما تعارف منها ائتلف،وما تنافرَ منها اختلف ))..؟؟

رحمَ اللهُ والدَكِ-أختي الكريمة-ورحِمَ الله والدينا وجميع آباء المسلمين وأمهاتهم،واللهَ نسألُ أن يجعلنا دائماً امتداداً ذاخراً لفضائلهم وحنانهم ودفئهم ورقتهم..آمين،آمين يا رب العالمين...

ودمتِ هكذا دائما-يا بنتاً أصيلة ً-على عهد العرفان وذمة الوفاء الجميل...