نسي أنه رأى هذه الصورة بالذات ، على اليمين طاولة من خشب اللوز منقوشة ، أمامها مقعد خشبي بني ، فوقها مرآة كبيرة جميلة ، على يساره سرير ، فوقه صورة صياد بكلابه وبندقيته ينظر الى سرب من الطيور ، ثورية من نحاس ، دولاب كبير يملأ الجدار نقش على الطراز القديم ، هذه الأثاث كلها ، لا يزال يذكرها ، جمعتها العمة نونة في هذه الغرفة ،تركها المعمر الآسباني و كانت في غرفة جده ، صندوق عرائس من الطرازالعربي القديم قيل أنه للجدة يرحمها الله  ، متحف يطيل عمر الذاكرة ، جلس على الكرسي ، نظر اليها ويبتسم ..  
كريم : لا تزال عمتي تعيش على الزمن الماضي دنيا زمان ، لا شك أن جدي كان يحبك كثيرا ، فأنت الآن تعيشين على ذكراه ، يقول المثل .. عز البنت الا مع أبيها وعندما تفقده عيشها يمرار ... منذ عرفتك وأنت في عزلة كم أتمنى أن أعرف وصية جدي لك ، قال أبي أنك على هذه الحال منذ قتل جدي ، قتله أعراب من أولاد جرجر أمامك من أجل الجزية لفرنسا ، قاتله هجر الى المغرب ولم يعد .. لا زلت تحتفظين بآخر كلماته.. لا يشبهه منا أحد ، اني لأستحي لما أتذكر أن جدي كان عميلا لفرنسا ، خائن أمته  ... 
 قامت ، وقفت أمام الباب وأشارت اليه بالخروج ، ولما قام أدارت وجهها ، خرج وترك الباب مفتوحا ، أحس أنه وضع أصبعه على الجرح .. وقف أمام السلم قليلا ، لم تغلق الباب بعد ... نزل ولا شك أنها لا تزال واقفة في مكانها ، هل هي بداية تدفق الذاكرة ؟! ومن يدري ؟!  
عاد الى الصالون وجلس ، أحس بالتعب ، استوى ... ارتخى ، يستمع الى نبضات جسمه ، أغمض عينيه ، فنام .. فتح عينيه ... وجدها قادمة  
ثورة: تنام نوم النملة ، أجهدت نفسك يا أخي ولا تزال ، العرق دساس كما يقولون ، والعار عيب على الوجه، يتحدى أيام العمر كلها ، فماذا تريد من دخيلة السوء ،  ألا  تدري من أي معدن صنعت ، هذه أشياء لا يتسامح فيها الناس ، بهذا تثبت أنك ناقص مروءة  
كريم: هل هي التي اختارت أن تكون كذلك ؟ 
ثورة : وأين ذنبنا نحن ؟ 
كريم : مادامت هكذا لماذا جاءت بها أمك ؟ 
ثورة:قال أبي كانت ظروفها قاهرة ، وكادت أمك تفقد صوابها عندما منعوها من رؤية ما أنجبت ، فكانت خضراء الحل الأسرع والأنسب  
كريم: فسروا لها التشوه بالسواد 
ثورة: هكذا قال أبي ، رغم هذا تأسفت و أصابها  احباط ، عاشت مرحلة خطيرة جدا ،رامتها  
بصعوبة، و من الفاجعة ما وجدت في ثديها حليب ، لأن الصدمة كانت كبيرة ولم تصدق ، وبعد أن صارحوها كانت خضراء كابوسا ولعنة تطاردها في النوم واليقظة ، زادت حدتها مع مرور الزمن . 
كريم: اختلط عندها الحب بالكره ، هكذا كانت تقول دائما ، حسبي الله في المفروك ، تريد المبروك ،كأنه هو من نصح بها ، ثم كانت أمك عنصرية يا ثورة ، هل تعرفين السبب ؟ لأن أجدادك الأوائل كانت خادماتهم سودوات ، كانوا يعاملوهن بقساوة ، انه تواصل الباطل بين الأجيال ... 
ثورة : أبدا ، ليس في الوجود أرحم من أمي ، تبكي لأتفه الأسباب ، طيبة تحاصرها الشفقة من كل جهة ، ولولا تسامحها وطيبتها ما كانت تحملت خضراء الى هذا الحد  
كريم: أين العيب في خضراء ؟ 
ثورة : أمي تعرفها أكثر منا جميعا ، هي أقرب الناس اليها ، لا يمكن أن تكرهها بدون ذنب ، مستحيل ، وهل كل شيء يقال ؟ 
كريم : أكاد أكره كل النساء بما فيهن أمي ، فقد بدأ الشك يساورني حتى في نزاهتها وصون شرفها ، ألا يمكن يا ثورة أن تكون  خضراء ... 
فقاطعته ثورة : اياك ، واياك ، لا تحاول ، أمك أشرف من كل نساء العالم  
كريم: لا ، لا ، أنا أقصد ، بل أريد أن أقول أن وراء خضراء هذه سر كبير ، اني أحاول أن أجمع الشتات والمعلومات حولها ، الا أن لبنات القصة تتنافر وتتناثر قبل بلوغ المراد ، كلما اكتشفت شيئا تعمق معناه والسر لا يزال يخفي السر فأين الحقيقة ؟ 
ثورة: لا تحاول يا أخي ، هذه طفلة معقدة الأطوار والماضي ، انها لغز منذ ولادتها وستبقى كذلك ، لا تحاول ، لقد عقدها القدر ، من الأفضل لك أن تهتم بما يستحق منك الاهتمام ، انك تضيع وقتا ثمينا من حياتك  
كريم: لن أرتاح حتى أصل الى حل عقدة هذا اللغز  
ثورة: أنت وشأنك ، لكن ما هو مؤكد أنك لن تجد ما يسرك ، ان مزبلة الماضي انتن مما تتوقع  
كريم: هل أنت خائفة ؟ 
ثورة: ولماذا أخاف ؟ يكفي أني متيقنة أنها ليست أختي  
ضحك كريم وقال : تخافين على الميراث ، ذهب أمك ومجوهراتها ، والأرض والمحلات و ... 
ثورة : لم أكن أتصور أنك تافه الى هذا الحد ، وبتصرفك هذا ستدفعني الى اغتيالك في نفسي ... أنت .. أنت .. 
 كانت الشرارات تتطاير من عينيها ، وتصلبت أطرافها وظهرت أسنانها كأنها تشد بها على رقبته ...  
فقام ، نظر اليها جيدا وكـأنها تحمل كل عيوب الدنيا ، ثم عاد باشمئزاز  الى مكانه وقال لها :  
هيا ، اذهبي ... 
ثورة: وبعد ، لا أريد أن تشاركني في أمي وأبي لقيطة سوداء  
كريم: قولي ، في مال أبي و أمي ، هيا انصرفي خير لي ولك .... 
فذهبت بغصتها ، تذكر جده والسوط في يده ، انها لا تشبهه الا في الخلق ، الشيء الذي هو متأكد منه أنه رأى شبيه جده ، ولكن أين ، لا يذكره ، كان جميلا جدا حتى تقول أن أمه من جميلات فرنسا ، يقال عنه أنه كان زير نساء ، يمكن أن يكونوا قد قتلوه من أجل امرأة ، ولم لا ، ماضي عائلتنا مليء بالتناقضات وأول ضحية هي الحقيقة ، ومن كانت ترد طلب القائد آنذاك ، وأي قائد ... 
شغلته قصة خضراء عن التحضيرات  لفتح مكتبه الجديد ، لقد أدى القسم الأسبوع الماضي وتم تعيينه محاميا لدى المحكمة ، انه الآن الأستاذ كريم .. العباءة السوداء والمحفظة ، انه الآن من المدافعين عن الحق ، المنقبين عن الحقيقة ... يبتسم ، ما أعظمها مهمة لو لم يشوهوها ... كان كريم طويلا لا يعاب وعريضا حد البسطة ، ليس بالجميل الذي يفتن ، ولا بالغليظ الذي ينفر ، اجتمعت في شخصيته الهيبة والطيبة وحسن السلوك ، يعرف كيف يقول الحق وكيف يزهق الباطل بعيدا عن التكلف والتلفيق ، جديته في الدراسة ساعدته على التحكم في سير النقاش ، أبهراللجنة يوم ناقش رسالته ، يتميز بثقة كبيرة في نفسه ، وقرر أن يذهب بعيدا ربما الى منظمة حقوق الانسان العالمية ، ولم لا ... انه العلم والطموح ... هل خضراء هي الباب الأول الذي سيدخل منه الى عالم التحريات ومطاردة الحقيقة ؟ ربما .. انه الآن وسط الدوامة وهو عامل فعال من عواملها ، الى أن يصل اليه أول موكل ، وهذا ليس غدا فسيتفرغ كليا لذلك ، والسؤال المحوري الذي لم يجد له جواب ، لماذا تريد أمه التخلص من خضراء ؟ ولا تريد أن يتذكرها أحد ، نشر صورتها في الجرائد وتبليغ الشرطة عنها هي فضيحة لكل العائلة في وسط هذا المجتمع الذي لا يرحم ، انه شرف العائلة الذي ولا شك ان انتهك  ستقتل العصبية العمياء الأب الذي يعاني من عدة أمراض ، السكري ، والقلب ، انها الصفعة التي تضع النهاية له ، وسيقول الجميع وخاصة الأعراب من قبيلتهم ، ذل الحاج ،  وقتله ابنه بكلام المدارس ، فماذا أنت فاعل يا كريم ؟ قال الأب ، خضراء سافرت ، هكذا يجب أن يطوى  الملف نهائيا ، انها أعظم جريمة يفتتح بها مسيرته القانونية ، ويخون قسمه ، فأين الضمير يا كريم .. ذلك هو الحق يجب أن نضحي من أجله بالباطل حتى ولو كان النفس والنفيس ، مثله مثل الحرية لا يقبل الشريك ولا يحتمل التزوير ... أصبحت خضراء همه الوحيد ، يهيم بها شوقا ، يدخل الى غرفتها كل ليلة ، يجلس ، يستمع الى حديث أشيائها ،ويحمله معه حيثما أرتحل وحل ، وبدأت غمامات الحزن والأسى تغمر البيت ، وكيف لا وكريم هو الولد الوحيد ، ولي عهد الحاج وحامل اسمه والمحافظ على بقائه وخلود ذكره ، وبدأ يعتزل ، ويغيب عن مواعيد الطعام وموائد والسهرات ، مقيد لا يستطيع أن يفعل شيئا ... غارت ابتساماته يقاوم تدفق العبرات وتصلبت عضلات وجهه ، لأن البكاء في عرفهم للنساء ، ونحيب الرجال آهات وتأوهات ، الشيء الوحيد الذي كان يشغله هو تفانيه في عمله ودفاعه عن المظلومين ، أولئك الذين وكلوه للدفاع عنهم ، فكان يرافع ليرفع عنهم ما استطاع من جور وظلم وهضم الحقوق ، يجد راحته في ذلك ، ويتدمر عندما يخسر قضية وراءها رشوة ،أحيل عدة مرات أمام لجنة التأديب لانتفاضه أمامي القاضي عندما تنتهك حرمة القانون ، وتمر بعض الأحكام تحت ابتسامات القضاة ، لحماس هذا الشاب وايمانه بقداسة القانون ، يعجبون به كثيرا ويتمنون له مستقبلا زاهرا ، وذاع صيته واشتد القيد على معصميه أكثر وعندما  تعاوده الذكرى ، يذهب الى عمي المبروك لعله ينتزع منه بعض الخفايا ، الا أن المبروك يعرف ذلك ، فكان يتحفظ كثيرا ويحول دائما مجرى الحديث ... 
كان في غرفة المكتب دائما كعادته يسهر الى ساعة متأخرة من الليل ، وقبل أن ينام ، يمر على غرفتها تنتعش الذكريات ويتجدد الحدث في ذاته ... 
دخلت دون اذن ، جلست أمامه ، لم يرفع رأسه ، لا يزال منهمكا في ترتيب ملفاته ، قال: 
مرحبا أمي ، لم تنامي بعد ؟ 
الأم: وكيف لي أن أنام وأنت في هذه الحالة ؟ هجرتنا ، وجردتنا من  الفرحة بك وافتخارنا بك ،  وألزمتنا الحزن والآه ، أبوك يئن تحت وطأة تصرفاتك ، يخشى عليك ويخشى أن تتهور وتكشف المستور ، فتضيع هيبتنا ويزدرينا الناس ونتحول أحاديث دنايا القوم وأراذلة القبائل وصعاليكها ، واليوم أنت في العلا يحسب لنا بك ألف حساب ، ما وجدت من وسيلة أواسيك بها سوى أن أعرض عليك فكرة الزواج ، يمكن أن تجد فيها البديل ، بل الأفضل ، ألا تظن أن خضراء انتهى أمرها وأصبحت ذكرى وأثرا لشبح مر من هنا ؟ .. ارحم نفسك يا بني ، أنت لأفضل منها أفضل ، لماذا تريد أن تنزل بالسلالة الى هذا الحضيض ، ما ركع جدك ولا أبوك أبدا ولا ركب الدنايا ، قتل جدك لتصلبه وأنفته وعزته وتحديه الجميع ، وأنت اليوم أكبر ، فأعرض عن هذا واترك الزمن كفيل بتغيير مجاري الحياة ، ان ما نحن عليه اليوم ما توقعناه من قبل أبدا ، كنا نراك وأنت صغير سيد القوم وحكيم الديار ونافذا في السلطة وابن النظام ، فاذا أنت اليوم محام تملأ القضاء همة ، حتى قالوا ، عندما يتكلم الأستاذ كريم وكأن الطير على رؤوس الجميع ، وهذه الهيبة ماصنعتها لك دراستك فقط ، بل هي ميراث وتواصل الأجيال ، كلهم يعرفون ابن من أنت يا كريم ، وما فائدة هذه القراية التي لا تعرفك بنفسك وتنزلك منزلتك ، هؤلاء كلهم أكلوا وشربوا من خيراتنا ، أكرمنا الجميع وساعدنا الجميع ، أينما يدخل أبوك يرفع في الباب  وتفتح له الصدور ، يقضي حوائجه ويخرج معززا مكرما ... هناك في البادية لا يتحرك الأعراب الا باشارته ، كل القبيلة تدين له بالولاء ، هو الذي لم يجلس يوما على مقعد ، باستثناء ما قرأه من قرآن في الكتاب وحفظ بعض الأحزاب ، وكان يرافق جدك لكتابة بعض تقارير الأهالي ، فتعلم الكثير ، انها العزة التي نشأت فيها ، فكن في المستوى ... 
كان كريم يستمع الى أمه وهي تعيد للمرة الألف مغامرات زوجها ومآثره  
كريم: يا أمي ، يا أمي ، كل شيء تغير الا أنت وأبي ، الناس يطيعونكم لأنكم اشتريتم ذممهم ، واكتشفتم أسرارهم ، وتعرفون عنهم مالا يعرفه غيركم ، انه ولاء الخوف يا أمي ، الخوف من الفضيحة ، الخوف من السجن ، الخوف من تصفية الحسابات ، ان نفوذ أبي هو الذي صنع له هذا المجد المزيف وسيزول يوما ونظهر جميعا على حقيقتنا .. المهم لقد تأخر الوقت يا حبيبتي ، غدا نتكلم في الأمر ، أما الآن فهيا بنا الى النوم ، أرافقك الى غرفتك ، ادخلي بهدوء حتى لا يستيقظ أبي  
الأم: لا .. أبدا ، لن أخرج من هنا الا بكلمة فصل ! .. يا بني ، يا بني ، أحرقت كبدي والقلب ينزف جرحك ، غير ممكن يا كريم أرتاح وأنت في هذه الحالة ! وكأنك لا تعرفنا ولا نعرفك ، أغيرتك السوداء الى هذا الحد ؟  ، حتى أصبحت تكرهنا !! ، أمن أجل امرأة يا كريم تعاقب والديك وتنتقم منهما ؟ عيب يا كريم ، انها خوارم المروءة وابتذال الشهامة ، أم أنت تمثل علينا لنرحم زلتها ؟ أبدا يا كريم لا تحاول ، خضراء هجرتنا هجر السوء ، لا نريد أن نجاهر به حتى لا نفضحها ونفضح أنفسنا ، وأقول لك أحسن ما فعلت ، و أكيد أنها لن تعود حتى لو وجدناها وحاولنا ذلك .. فابحث عن غيرها .. 
كريم: سأفكر يا أمي ، ارتاحي الآن ، زواج الدوام يجب التفكير فيه عام ، كما يقول المثل .. 
قامت ، دارت حول المكتب ، وضعت يدها على كتفيه تعانقه ، وفاضت العبرات تتكركب كحبات البرد وهي تقول :  
أرجوك يا كبدي ، لا تخذلني ، أتمنى أن أرى ولدك قبل أن أرحل ، انني أقاوم للبقاء والمرض هتك حرمة صحتي ، اني أعاني .. نعم أعاني .. سأموت يا كريم ، وستذكر هذه اللحظة بالذات ... 
استوت واقفة ، نظرت اليه ،أراد أن يقوم فأشارت اليه فرجع ، انصرفت ، وغلقت الباب وراءها  
أحس كريم بقشعريرة في كامل جسده ، سأموت يا كريم .. سأموت يا كريم ... فزعت كل المدارك ونفخ شعور غريب في نفسه .. فداك نفسي يا أمي ، فداك نفسي ... 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                     
                 
 
 
 
 
                                       الفصل الثالث 
 
		 
		
		
		
		
		
		
		
		
			
			
			
			
				 
			
			
			
			
			
			
			
				
			
			
			
		 
	
	 |