الموضوع: علم الله
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-01-2013, 12:45 AM
فيصل مفتاح الحداد فيصل مفتاح الحداد غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 206

اوسمتي

افتراضي علم الله

بسم الله وبحمده والصلاة والسلام على أنبيائه وبعد :
فقد مررت يوماً على سوق كان لنا فيه محل تجاري ، بعد أن مضى على عهدي به أكثر من خمس وعشرين سنة ، وكان ثمة مسجد قديم عتيق هناك ، فإذا به قد تغير فصار على طراز حديث ، فدخلت للصلاة وبعد خروجي تأملت المحلات التي كنت أعرفها كما أعرف نفسي ، فإذا جميع المباني قد تغيرت ، وإذا كل ساكنيها قد تغيروا جميعاً ، فلم أعرف أحداً ، لا في المسجد ، ولا في هذا الموضع الذي نشأت فيه حقبة طويلة من عمري ، وإذا بجميع أصحاب المحلات الذين عهدتهم قد ماتوا ولم يبق منهم أحد على قيد الحياة ، يا سبحان الله !
فكل محل هنا تغير من مالك إلى مالك ، ومن حرفة إلى أخرى ، ومن شكل معماري إلى آخر .. هذا كله في ربع قرن ، فلو افترضنا أننا اقتصرنا على كتابة ذكريات هذا الشارع الواحد فحسب من بين شوارع هذه المدينة كلها ، ولفترة وجيزة من عمر الزمن فكم من المجلدات سنكتب ؟
لا شك أننا سنتناول بالسرد جميع أفراد هذا المكان المحدود ، وكل ما يتعلق بهم وبأولادهم ، ونشاطاتهم وأخبارهم وأزواجهم ونوادرهم ..مما لا يقع تحت حصر ، ثم انتهى أمرهم وجاء بعدهم في المكان نفسه آخرون ..ولهم كذلك أخبار وذكريات وأحداث ..وانقضوا وجاء بعدهم آخرون وهكذا ..
وهذا كله في شارع واحد من شوارع حي واحد ، فما بالك بالشوارع التي قبله وبعده حتى نهاية شوارع المدينة كافة ، وهي عشرات الآلاف ، ثم ندخل إلى مدينة أخرى لنسجل ذكرياتها بيتاً بيتاً ، محلاً محلاً ، حتى ننتهي منها ، فنشرع في مدينة أو قرية أخرى ، حتى ننتهي من الدولة جميعاً على امتداد رقعتها ، فإذا بدول أخرى تجاور هذه الدولة ، فنشرع في تدوين حياة كل فرد منها فرداً فرداً حتى ننتهي منها جميعاً ، فإذا بقارات عديدة ، وكل منها تحتوي على مليارات البشر ، وكل منهم له أجداد موتى لا يمكن إحصاؤهم ، يدخلون في إطار هذه الذكريات التي تجمع بني البشر .
ونستمر في هذا الاستقصاء إلى أول الخلق ( آدم وحواء ) فنكتب مليارات المجلدات ، ثم نأتي إلى عالم الجن فنستقصيه جميعاً ، وكل باسمه وأفعاله وذريته وأزواجه ، ، فنشرع في إحصاء البر وما فيه من حيوان وطير ونبات وجماد ، وكل شيء نسجله باسمه وتسلسل ذريته فرداً فرداً ، وكل فرد وجميع ما يتعلق به ، حتى ننتهي من كل ذلك حتى إذا أتينا على كل ذلك ، دخلنا البحار بحراً بحراً ، ومحيطاً محيطاً ، ونهرأ نهراً ، فنحصى ما فيها من كائنات من أسماك وحوت وحيوانات ، ونستقصى بيضها ، وأعدادها وألوانها وطرائق معايشها وأنواع نباتاتها ....ومازلنا نستقصي حتى ننتهي من كل ذلك بعد آلاف السنين من الكتابة والبحث والاستقصاء ، وقد أعيتنا الكتابة ، وأنهكنا التسجيل فنفاجأ بعد ذلك كله أن كل ما سطرنا لا يتعدى كوكباً واحداً مما خلق الله ، وهو كوكب الأرض الذي لا يمثل شيئاً بالقياس إلى اتساع الكون وكواكبه ونجومه ومجراته ، وثمة عوالم أخرى قد أحاط الله بها كالملائكة وغيرهم ممن خلقهم الله وأحصاهم .
وكل مخلوق ـ من إنسان وحيوان وطير ونبات وغير ذلك ـ له رزقه بكل مكوناته المختلفة ، في فطوره وغذائه وعشائه ، في جميع أيام عمره ، ولا يغفل عن ميلاده ولا وفاته ولا رزقه ولا غير ذلك ..، وهذا التقدير قد أخذ من الله تعالى أربعة أيام ( أربعة آلاف سنة ) بينما استغرق خلق الأرض يومين فقط ( ألفي سنة ) انظر سورة فصلت 9ـ10 .
وما ملايين اللغات إلا مظهر من مظاهر علمه سبحانه وتقديره ، فكان لكل لغة مكانها المحدد الذي تنـزل فيه ، وزمانها المحدد الذي تظهر فيه ، متسقة في قواعدها وألفاظها وحروفها وأرقامها ، فهذه اللغات تهبط في مواضعها المقررة لها ، ولذا فإن من يجد في نفسه رغبة أن يتحدث بلغة ما عليه أن يذهب إلى محل هبوطها ( البلد الذي تنـزل فيه ) فما هو إلا قليل من الوقت حتى تغلب على لسانه ويثقل عليه الحديث بغيرها .
وقد علَّم اللهُ تعالى أولَ البشر (آدم ) جميعَ الأسماء ، وفتَّح القرآن الكريم علوماً عظيمة للإنسان منذ آياته الأولى ، ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فقد كشف للوهلة الأولى عن خلق الإنسان ، وصرَّح بأنه المعلم له فألهمه الطب من قوله تعالى (وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) والإحصاء من قوله تعالى  (وأحصى كل شيء عددا ) وعلَّمه جميع لغات الأرض من قوله تعالى ( واختلاف ألسنتكم )  والشرائع والقوانين من قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) والطيران من قوله تعالى ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا ) وتحرير العقود وتوثيقها من قوله تعالى  (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ).. ..
وثمة محيطات من علم الله شفرت فلم يسمح للإنسان منها إلا بقطرات قليلة تناسب عقله وفكره ويمكنها أن تفيده في رحلته إلى الآخرة ، أما الباقي فقد أغلقت عنه ، وسمح لبعض الخلق بنماذج تعد على الأصابع تمثل علوماً محظورة ، كمعرفة سيدنا سليمان للغات الحيوان والطير ، وإحياء سيدنا عيسى للموتى ، ومن هذه المعارف عالم الروح قال تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) وبذلك القول قُفل هذا الجانب من العلم ، وتقدمت الصناعات المادية وحدها ، واتسعت اتساعاً رهيباً ، فظهرت كل معالم المدنية الحديثة ، وكل مظاهر الثكنولوجيا التي نشهدها الآن ، والحكمة في هذا ترجع إلى انفراد الله وحده بالإحياء والإماتة ، وإلا لكان في مقدور الناس أن يهبوا الحياة لمن شاءوا .
كل ذلك عبر عنه الله تعالى بقوله الكريم :  (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) أي لو أن كل أشجار العالم قطعت وجعلت أقلاماً ثم جيء بالبحر حبراً ، وكتب علم الله لنفد البحر ، ولو أتينا بسبعة أبحر أخرى مداداً لنفدت جميعاً دون أن ينتهي علم الله الذي يعلمه ، فهو علم يشمل الماضي دون بداية ، والحاضر بكل تفاصيله ، والمستقبل بكل امتداده ، فهو باختصار شديد : كل ما وقع أو يقع ، من حدث أو غيره سواء أكان قولاً أم فعلاً ، حركة أم سكوناً ، ظاهراً كان أم باطناً ، في الأرض أم في غيرها مما خلق .
هذا يدل على المطلق ، أي ما من قول ولا فعل ولا ظهور ولا كمون عند إنسان أو جن أو حيوان أو نبات أو جماد أو غيره إلا وهو في علم الله سواء في الماضي أم الحاضر أم المستقبل ، وقد عبر عن ذلك في موطن آخر وهو قوله تعالى : ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين  )وكذا قوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ) وقوله تعالى  (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار )وقوله تعالى  (وأحصى كل شيء عدداً ) بما في ذلك حبات رمال الصحارى حبة حبة .
ونحن نعتز اعتـزازاً شديداً أن نكون عبيداً لخالق عظيم ، له علم لا ينفد كهذا العلم ، ونرتاح ارتياحاً عظيماً لعظم هذه المعرفة ، إذ إننا نضمن أن حقنا في الآخرة لن يضيع ؛ وأن كل من كذب علينا في الدنيا وأخذ حقوقنا ، وزاغ عن أدائها ، وسلب أراضينا وأموالنا ، وسخر منا ـ سيرد عليه كيده ، وننتصف منه بين يدي رب عادل حكيم ، ولا تنفعه شطارته وسعة حيلته ، ولا ينفعه الكذب ما دام الله قد أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً .
أليس جميلاً أن ينادى عليك فتأخذ حقك كاملاً غير منقوص ، وقد بدا أمامك السارق الذي حرق كبدك على متاعك ، والمغتاب الذي اغتابك ، والمزور الذي شهد عليك بالزور والبهتان ، والمحتال الذي ادعى ممتلكاتك ، والكائد الذي كان يكيد لك كيداً ، ويحمل لك حقداً دفيناً ، وينال منك وأنت لا تدري .
بهذا حق لهذا العلم العظيم أن يكون كافياً للجزاء يوم القيامة ، وإلا لكان هذا الحساب ضرباً من المستحيل ، إذ كيف يتسنى لمخلوق أن يتابع جميع البشر ، في جميع أنحاء الأرض ، وفي شتى الأزمنة ، في كل ما قالوا وما عملوا وما أسروا في أنفسهم !
__________________
فيصل الحداد

التعديل الأخير تم بواسطة فيصل مفتاح الحداد ; 13-01-2013 الساعة 12:57 AM
رد مع اقتباس