عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 03-08-2016, 09:30 PM
عباس العكري عباس العكري غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Jul 2016
الدولة: البحرين
المشاركات: 72
Exclamation

الدّميةُ... لها قلب!
ورنيك مصطفى


1 وقفتُ بحذاء دمية ترتدي ثيابا بحجم مقاسي. نظرت إلى عينيها، كأنّها تريد محادثتي. كأنّها تريد أن تقول لي: "أنت أولى مني بذا اللباس؛ ألست إنسانا ولك كرامة!، ألا يحق لك أن تواري سوءاتك!.". - فأجبتها: بلى. إنّ كلامك لا يستشعره معظم البشر. ينظر بعضنا لبعض، كأنّنا ضباع، تطارد بني جنسها، وتنهش لحم بعضها. 2 مددت يدي لأتلمّس الثّوب الذي زُينت به الدمية، وما كدت أفعل حتى تلقيت صفعة من صاحب الدّكان. ثم دفعني؛ فوقعت على الإسفلت بقوة، وأخذ ينهرني ويصفني بأبشع الأوصاف. 3 قمتُ من مكاني مطأطئ الرأس. سرقْتُ آخر النّظرات إلى الدّمية، والحُزن بادٍ على ملامحها؛ لأنّ إنسانا اغتُصِبتْ كرامتُه. حَزَنَتْ، كأنّ لها قلبا في جوفها. ولّيت مُدبرًا، أضع رغيفي، وقنينة ماء في كيسي، الذي أحمله على كتفي الهزيل.

إضاءة تحليلية

عباس علي العكري - البحرين

المشاهد الثلاثة. - المشهد الأول حينما لا يستطيع الإنسان أن يقارن نفسه بغيره ممن يماثلهم؛ حينها لن يستطيع أن يقارنها بما هو أدنى منها!. على الإنسان أن يحافظ على كرامته، وأن يستر نفسه عمّا يعيبها؛ فالروح تسمو بالخلق الكريم، الذي يصون لها الكرامة الإنسانية؛ مثلما يستر اللباس العورة عن الناظرين. ثم يتطرق المشهد إلى النظرة المادية التي لا ترى للفقير من كرامة مهما بلغ تعففه، فقيمة المرء بما يملكه، لا بما يحمله من قيم. وتتضح لنا رمزية اللباس الذي استخدم كمعيار يمكن من خلاله تصنيف الناس لمقامات تتدرج في احترامهم لبعضهم الآخر. تناول المشهد حق الإنسان في العيش الكريم، وإلى من سلبت حقوقهم، وما يبنغي أن يكون عليه التوزيع العادل للثروة والمال العام لمن يستحقه. الرموز والإيحاءات والدلالات: (الدمية، الضباع)، وهنا تمّ التعبير برمزية "الدمية" عارضة اللباس، عن إعطاء الثروة لمن لا يحتاجها في ظل وجود مستحقها " الفقير". إنه الصراع، من أجل السلطة، إنه الجشع، ضباع بشرية تنهش بعضها بالقذف والبهتان والحط من الكرامة الآدمية، من أجل الثروة ولو على حساب آلام الفقراء. - المشهد الثاني يستكشف الإنسان أعماق نفسه الداخلية، ويحدث صراع فكري معها. وتحدث إثارات منها: هل أن كرامة الإنسان تحتاج لشيء آخر يزينها كالأمور المادية مثلا؟. فإن كان كذلك؛ فهل سيصبح الفقير أقل كرامة لانعدام ما لا يملكه؟. وهل أنّ الفاقد للحس ستكون كرامته أعلى؛ لما يملكه من سلطة مادية، إذا ما قارناه مع الفقير صاحب الشعور الراقي؟. الرموز والإيحاءات والدلالات: الثوب: ما يسعى الإنسان لتملكه ليحافظ على كرامته. الصفعة: خيبات الزمن وأحداث الدهر التي تلم بالإنسان. الدكان: مصدر الثروة والغنى. الإسفلت: مسلك الانهيار الخلقي في المجتمع. ولهذا تم التعبير هنا برمزية "الدكان" السلطة الإدارية والمالية والتجارية. إنّه الغنى، فصاحب المال يطغى، ويستخدم القوة لتبرير حق ملكيته، فيتخذ ماديته السافلة معيارا لا يحيد عنها، فلا يتفادى الاصطدام بالآخرين، بل يلقيهم على الإسفلت الأسود دون شعور. ورغم أنه هو المتسبب بتلك الحوادث، إلا أنه يبدأ بالشتم وما لا يمكن وصفه، ملقيا اللوم على الآخرين، دون أن يتحمل مسؤوليته تجاههم أو أن يرف له جفن. إنها الشراكة المجتمعية لدى المؤسسات والشركات وأصحاب الثروة ورجال الأعمال، التي تحتم عليهم تقديمهم الدعم والخدمات الاجتماعية للمحتاجين ومساندة الأنشطة الخيرية. [IMG] - المشهد الثالث. إن المحتاج في مجتمعه قد حطت كرامته، لمّا أن كانت المادة معيارا للتصنيف بين الناس، ولو على حساب القيم الإنسانية. لذا ترى الفقير يطأطئ رأسه كناية عن الذل، ويحاول إلتماس المساعدة وهو يشعر بالخزي عندما ينظر في أعين السائلين الذين انعدمت مشاعرهم، فيرمقونه بالحنق والسخرية دون رأفة. الرموز والإيحاءات والدلالات: الرغيف، القنينة، الكيس، الكتف. نظرة الدمية، الدمية تملك قلبا وجوفا وشعورا. الأغنياء ينظرون بأعينهم نظرة احتقار للفقراء. اغتصاب المشاعر. تم تجسيد المشهد الدرامي، فالدمية الفاقدة للحياة، لهول ما رأته من بشاعة معاملة الأغنياء تجاه الفقراء، تنظر بعينها نظرة رأفة وحزن للفقير المحتاج؛ ولكنها لا تملك سوى ما تم إلباسها إياه. وتتسائل هناك من هو أحوج مني. وتريد أن تتبرع بملابسها وأن تظل عارية. فدبت فيها المشاعر. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الأغنياء الذين يملكون المال يفتقرون لعين الرأفة والرحمة للجشع الذي سيطر عليهم لإعلائهم قيمة المال والسلطة. إنّ الفقير ليعيش بكرامته، معتمدا على كتفه المنهك من قسوة العمل، ورغ مقلة المعاش الذي يشتري به رغيفا ليد جوعه الذي أهلك بدنه فأصبح هزيلا، ويبحث عن قنينة ماء ليسد ضمأه، دون أن يسمح للجشع أن يحط من مكانته، كما فتك بالطامعين في السلطة، فغدو ضباعا ينهشون بعضهم وهم أحياء. فالضبع يأكل فريسته حية، ويلتذ بعذاب الفقراء دون رأفة أو مشاعر وهم يستصرخونه في مد المساعدة. إنها الكرامة الإنسانية المهدرة في مجتمع تسود فيه قيمة المال كقيمة عليا، وتنعدم فيه المشاعر، وحس الشراكة المجتمعية لدى طبقة الأغنياء، في ظل فقر مدقع، يحاول فيه الفقير الحفاظ على كرامته بعرق جبنيه وبفضل كتفه. وبما أنّ الدمية لها قلب؛ فلم انـقلبـت الآدمية بلا قلوب!
__________________
رد مع اقتباس