[يزيد فاضلي]

...إنها-أخي الكريم الفاضل عمر الناعبي-من أورع ما قال الشاعرُ العباسي الفحل حبيبُ بن أوس أبوتمام،ومن أجَلِّ قصائده العمودية التي تضمنها ( ديوان الحماسة )...

وإنه حينَ يُقالُ في الأوساط الأدبية والشعرية ؛ ( بائية أبي تمام ) فإن الخاطرَ رأساً يذهبُ إلى قصيدة ( فتح عمورية )...

وعلاوة ًعلى جزالة الأسلوب وفخامة اللفظ اللذيْن تتسمان به القصيدة،فإن أروعَ ما فيها-في تقديري-هو إيحاؤها البديع الراسخ في وحَيْ المناسبة والظرف الذي قيلتْ فيه...

لقد كانت القصيدة فتحا شعريًّا فتحه الله عز وجل على شاعريةِ أبي تمام الرائدة...

القصيدة-كما أجمَعَ النقادُ ومؤرخو الأدب-كانتْ توصيفاً رائعاً لموقف الخليفة العباسي المعتصم رحمه الله الصارم الحاسم في فتحه المُستحَق لثغر ( عمورية )-وهي مسقط الأمبراطور البيزنطي-والفتحُ كان ردًّا إسلاميًّا عزيزاً على غارات الجيش الروماني الذي كان يستفز تخوم الدولة الإسلامية المترامية،وكان ثأراً لصيحة المرأة العربية التي أسَرَها الجنودُ الرومُ،فصاحتْ مستغيثة مستنجدة : ( وامعتصماه..!! )،فما كان من الخليفة المعتصم إلا أن وقفَ وقفة تاريخية خلدَها التاريخُ الإسلاميُّ،وقرر الزحفَ والمواجهة مستعيناً بالله تعالى بالرغم من أن أولئكَ المنجمين والدجالين والمشعوذين الذين زرعوا في جسم الأمة راحوا يبثون في صدر الخليفة وجيشه التثبيط والخذلان،زاعمين أن دجلهُمْ وشعوذتهم و ( جنونهم ) أوحوْا لهم أن فتحَ الثغر لن يتم في حينه وعلى المعتصم أن يُرجِئَ إلى موسم أواخر الصيف وأوائل الخريف،وهو موسم نضوج التين والعنب..لكن الخليفة المؤمن-ومن حوله خيرة علماء الأمة وفقهاؤها-مضى لا يستمع إلى نعيق هؤلاء الغربان،وأعد العدة وهيأ الأسبابَ،ورمى بالجيش المسلم في معركةٍ حاسمةٍ،كسرتْ شوكة الرومان المعتدين وتم فتح عمورية وكان نصراً مؤزراً،تعتز به الأجيالُ وتفتخر...

ولنتأملْ مرة أخرى قولَ أبي تمام :

تَـدبـيرُ مُـعـتَصِمٍ بِـاللَهِ،مُـنتَقِمٍ لِـلَّــــــــــــــــــهِ،مُـرتَقِبٍ فـي الـلَهِ،مُـرتَغِــبِ..!!
تِسْعُونَ أَلْفاً كآسادِ الشَّرَى نَضِجَتْ ** جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التينِ والعِنَبِ..!!
يا رُبَّ حوباءَ لمَّا اجتثَّ دابـــــرهمْ ** طابَتْ ولَوْ ضُمخَتْ بالمِسْكِ لم تَطِبِ
ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِيضُ السُّيُوفِ بِهِ ** حيَّ الرِّضا منْ رداهمْ ميِّتَ الغضبِ
والحَرْبُ قائمَة ٌ في مأْزِق لجـــج ** تجثُو القيامُ بهِ صُـــــغراً على الرُّكبِ
كمْ نيلَ تحتَ سناها من سنا قمرٍ ** وتَحْتَ عارِضِـــــها مِنْ عَارِضٍ شَنِبِ
كمْ كان في قطعِ أسباب الرِّقاب بها * إلى المخدَّرة ِ العـــــذراءِ منَ سببِ
كَمْ أَحْرَزَتْ قُضُبُ الهنْدِي مُصْـــــلَتَة ً** تهتزُّ منْ قُضُــــــــبٍ تهتزُّ في كُثُبِ
بيضٌ، إذا انتُضيتْ من حُجبها رجعتْ ** أحقُّ بالبيض أتراباً منَ الحُجُبِ
خَلِيفَة َ اللَّهِ جازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَـــــنْ ** جُرْثُومَة ِ الديْنِ والإِسْلاَمِ والحَسَبِ
بصُرْتَ بالرَّاحة ِ الكُبرى فلمْ تــــرها ** تُنالُ إلاَّ على جــــــــسرٍ منَ التَّعبِ
إن كان بينَ صُرُوفِ الدَّهرِ من رحمٍ ** موصولة ٍ أوْ ذمامٍ غيرِ مُنقضبِ
فبَيْنَ أيَّامِكَ اللاَّتــــي نُصِــــــرْتَ بِهَا ** وبَيْـــــنَ أيَّامِ بَـــــــدْر أَقْرَبُ النَّسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْرَاضِ كاسِمِهمُ ** صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ..!!

جوزيتَ-أخي المبدع الأصيل-على تذكيرنا بهذه الرائعة الشامخة..وشكراً...