الموضوع: نقض مبدأ القوة
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-01-2013, 12:06 AM
فيصل مفتاح الحداد فيصل مفتاح الحداد غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 206

اوسمتي

افتراضي نقض مبدأ القوة

نقض مبدأ القوة بقلمي : د. فيصل مفتاح الحداد
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فما هذا الكون العظيم الذي نعيش فيه ، بكل كواكبه وأقماره ومجراته ونجومه إلا ملك من أملاك الخالق ، وما هذه الأرض بكل ما عليها إلا قطعة صغيرة لا تكاد تذكر من هذه الأملاك ، وقد أراد الله تعالى فيما أراد أن تكون مقراً للإنسان حتى حين ، فقد استخلفه فيها لحكمة ذات شقين : الأولى : تكليف الإنسان بالعبادة كسائر المخلوقات ، والثانية : الاختلاف حتى تتصارع قوى الخير والشر ، فتستخرج كل القيم السلبية فتمحق إلى الأبد ، وتبقى الفضائل السامية بقاء الدهر .
وقد يقول قائل : إن العبادة أمر مفروغ منه لكمال الله تعالى وتفرده بعزة الألوهية والقدرة على الخلق والرزق والمشيئة والإرادة والملك والسلطان ..وهذه الأمور تقتضي منا أن نعبده شكراً على نعمه ، وحباً فيه ، وقرباً منه ، وطاعة له ، فما قصة الغاية الأخرى وهي الاختلاف ؟ .
ترجع فكرة الاختلاف إلى بداية خلق الإنسان ، فقد علم الله تعالى بعلمه الذي لا نهاية له أن هناك شراً سيظهر في بعض ما خلق ، وأن هذا الشر لابد من استئصاله ليسلم الكون منه ، وترتاح المخلوقات في الخير المحض ، الذي يحيا فيه الملأ الأعلى من تسبيح وصلاة وحمد وشكر وطاعة وهدوء وسلام ، وعلم فيما علم أن بداية هذا الشر سيكون على يد إبليس أشقى خلقه ، ثم يمتد في ذريته ، وفي بعض ضحاياه من بني الإنسان ، وهكذا أعد الأرض سكناً للإنسان ليستخلفه فيها ، ويتابع ما يصدر عن هذين الثقلين من ملامح الخير الذي يقبله فيرفعه إليه ، والشر الذي لا يقبله فيدفعه في جهنم جميعاً .
وهكذا خلق الله أول إنسان وهو ( آدم) عليه السلام ، وقد أوصى الملائكة قبيل خلقه أن يقعوا له ساجدين سجود تحية واستقبال بعد أن ينفخ فيه من روحه ، وقد نفذ الملائكة الكرام أمر خالقهم سمعاً وطاعة إلا إبليس كان من الجن ، نظرت عيناه إلى الطين الذي خلق منه آدم ، فاستخف به وأنف أن يسجد له ، واحتج بأنه مخلوق من نار ، والنار في رأيه خير من الطين ، وغفل عن قدسية هذه الروح الإلهية العظيمة التي نفخت في الإنسان ، واستكبر أن يحيّ هذا القادم الجديد ، واعترض وحاج ربه وتحداه ، وبذلك ظهر أول الشر ، وظهرت أول الخصال السيئة ، وهي الكِبْر ، وتتابعت خصال شريرة أخر : المعصية ، اللجاج ..ولما استقر آدم في الجنة ، وأبيح له من خيراتها ما يشاء إلا شجرة واحدة ، حسده إبليس فظهر الحسد ، وبغضه فظهر البغض والكراهية ، وأراد الإيقاع به فلجأ إلى الكذب والحيلة والخبث والمكر ، وغضب من آدم فظهرت هذه النقائص جميعاً بعد أن كانت مطوية في عالم الغيب ، وهكذا توالت في إبليس قبيح الخصال حتى أصبح مجمعاً للرذائل ، وسميت بأسمائها ، وأصبحت تتوالد بعضها من بعض ، فمثلاً الكذب يتوالد منه خلف العهد وخيانة الأمانة والبهتان ..إلخ .
أما آدم فقد وجد الحظوة عند ربه ، مما جعل إبليس يزداد غيظاً ، فيتسلل إلى الجنة ، ويجد في الشجرة التي نهي آدم عنها موضعاً للغواية ، فيوسوس له بها ، وما زال يزينها لآدم وزوجه حتى مدا يديهما يتناولان من ثمرها ، وقد أنساهما الشيطان حرمة هذا الثمر عليهما ، وهكذا وقعا في الخطيئة مما جعلهما يفقدان هذا النور الذي يكسوهما ، وظهر لهما سوآتهما ، وندما على ما كان من فعلهما واستغفرا ربهما فغفر لهما ، غير أنه لم يكن ثمة مفر من العقاب ، وهو النفي للأرض ، كما هو مرسوم في علم الله ، ليكون الإنسان خليفة فيها ، فيعمرها وتزدهر فيها الحياة ، وتتصارع فيها قوى الخير والشر ، وهكذا هبط الشيطان للأرض ؛ ليثبت جدارته بالغواية وسعة الحيلة وعناد الله ، وهبط آدم وزوجه ؛ ليصارعا هذا الضلال ، ويهديا إلى طريق الحق والصراط المستقيم ، و ليكونا أعداء الشر ، يحاربانه أينما كان ، وكان الإنسان قد حُمِّل أمانة فحملها ، بينما أشفقت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها ، ولم تكن هذه الأمانة سوى تطهير نفسه والعودة بها نقية من كل شوائب الشر ، مستعملاً في ذلك عقله من جهة ، وهداية الله تعالى له من جهة أخرى ، بما يبعث إليه من أنبياء ورسل وكتب سماوية ترشده إلى سواء السبيل ، وهكذا بدأ الصراع بين إبليس وذريته من ناحية ، وآدم وذريته من ناحية أخرى .
كان الإنسان في بدء خلقه تأخذه الغفلة والنسيان والذهول ، ولا يستطيع أن يتمثل المجردات وإنما هو يحيا في عالم الحس ، يستشعره من خلال حواسه ، وهي منافذه على عالم المادة ، من شم وذوق ولمس وسمع وبصر ، ولذا سخر الله له سبيلين من العلم : العلم الظاهر الذي يتضمن الأسماء جميعاً بمختلف اللغات ، والعلم الباطن الذي استأثر الله به أولي الألباب ، ومنه ما جعله الله رموزاً حية تجسد للإنسان المعنويات التي يصعب عليه تعلمها ، فإذا أراد أن ينهاه عن فعل شيء قبيح مثلاً صور له هذا الشيء على صورة مخلوق حي تتم به العبرة والموعظة ، وإذا أمره بالتريث والتمهل والبطء خلق له السلحفاة تجسيداً لهذا المعنى ، وإذا أمر باجتناب الفساد فلم يعي الأمر خلق له الفأر مثالاً حياً على الفساد الذي يحدثه ، فيجتنبه بذلك على بينة وذكرٍ ووعي ، وهكذا خلق الذباب تجسيداً للإلحاح ، والثعلب تجسيداً للمكر ، والذئب تجسيداً للغدر ، والكلب تجسيداً للوفاء ، كما خلق ألواناً أخرى من الحيوان للانتفاع بها ، كالغنم والإبل والخيل ..
ووضع علاقات عدوانية بين بعض الحيوان ليلفت النظر إلى هذا الصراع الخفي بين الإنسان وخصمه اللدود الشيطان ، فإذا كان الفأر يمثل الفساد فإن الهر يمثل الصلاح ، وهو أقوى من الفأر ، بحيث ينتهي الصراع بين هذين الرمزين إلى انتصار قوى الخير المتمثلة في الهر ، أما الحيوانات المفترسة فهي رمز للشياطين في فتكها وشراستها ، ووجه الشبه بينهما أن الشيطان يفتك بالإنسان ويحاول بكل ما أوتي من دهاء أن يجره إلى غضب الله ، من غبر أن يتعرض له بأي سوء ، وكذا الحيوان المفترس فإنه يهاجم أي أحد يلاقيه ، ويعده طعاماً له .
ويدل على صدق ما قلت أن الله الرحيم بخلقه قادر على أن يجعل الحيوانات آكلة اللحوم تتغذى على الأعشاب كما تتغذى الحيوانات الأخرى ، ويعفو عن سائر الحيوان ليعيش في أمان ، ولكن فكرة الصراع حينئذ تتلاشى ، وتضيع الحكمة من خلق هذا الحيوان المفترس لغرض تنبيه الإنسان إلى وجود هذا الصراع الخفي بينه وبين الشيطان ، فإذا لم تكن هذه الغاية من خلق الحيوان المفترس فما الغاية من خلقه إذن ؟ .
وإن هذا الصراع لا يشمل الحيوانات المفترسة فحسب بل يضم كل المخلوقات الأرضية ، فانظر إلى الحيوان الأليف بكل فئاته تجده مهيأ لهذا الصراع ، وما القرون التي في الكباش أو في الثيران أو في الظباء أو غيرها إلا مظهر من مظاهر الاستعداد للقتال والصراع والعراك ، وما الأنياب والمخالب في شتى الحيوان حتى الطائر منها إلا مظهر من مظاهر هذا الصراع ، حتى الحيوان البحري يأكل بعضه بعضاً ، ولقد وجد هذا الاستعداد للقتال حتى في الديوك ، فجعل لها مباريات يشاهدونها وهي تنقر الخصم بمناقيرها الحادة وتنسل ريشها ، وإنك تجد في أسبانيا مصارعة الإنسان للثيران ، ويجد المشاهدون لذة قصوى في رؤية هذا الصراع ، ولعل السبب في ذلك أن الإنسان مجبول على حب الصراع ؛ ليكون مهيئاً لخصومة عدوه الأكبر ، غير أنه بمرور الوقت نسى هذا العدو وظلت هواجس الصراع باقية في نفسه ، ومن ثم فقد استمتع الإنسان بمباريات المصارعة بأنواعها والملاكمة ، وصفق طويلاً للمصارعين وهم ينـزفون دماً ، ويقتل بعضهم بعضاً .
إذن فالصراع أصلاً كان موجهاً ضد عدو واحد ترتاح النفس لقتاله وهو الشيطان الذي أمر الإنسان بمحاربته ، فلما كان خفياً لا يستطاع رؤيته أغفله الإنسان ، وظلت فكرة الصراع مكبوتة في نفسه ، لا يدري لِمَ يميل إليها ، مع ما فيها من وحشية وفتك وعنف .
وبلغ من سيطرة هذا الشعور على الإنسان أن وظَّفه في حرب أخيه الإنسان ، فظهرت العداوة والمكر والحسد والخديعة والمنافسة والرغبة في الانتصار ..حتى بلغ الأمر عند أهل الغرب أن ذهبوا إلى مبدأ القوة ، وأن القوي هو الجدير بالحياة ، وأن الضعيف لا مكان له على الأرض .
وقد يقول قائل : إذا لم يكن مبدأ القوة هو المبدأ الحق فما هو المبدأ الحق ؟ الإجابة : إن العدل هو المبدأ الحق ، بحيث نعطي لكل ذي حق حقه ، فيصير راضياً فرحاً غير ساخط على أحد ، وانظر إذا شئت إلى رجلين يصطرعان ، ويحاول كل منهما أن يحطم الآخر ، والدماء تنـزف منهما بغزارة حتى يقتل أحدهما الآخر ، ثم انظر إلى رجلين يحتضن كل منهما الآخر ، متعانقين مبتهجين بصدفة اللقاء ، يكادان يطيران من الفرح ، وقارن بين المشهدين ، المشهد الأول يثير الاشمئزاز ؛ لأن دوافعه التي تثيره هي الحقد والكره والبغض ، أما المشهد الثاني فهو يثير السرور والفرح ؛ لأن دوافعه التي تثيره هي المحبة والود والشوق .
وانظر إلى رجل فقير مريض ضعيف عاجز ، انتهكت حرماته جميعاً ، وسطا عليه مجرم غشوم ظالم شرير ، فأصبح في حال يرثى لها من الجزع والخوف والذل والقهر ، وانظر إلى آخر في مثل حال ضعفه غير أنه أعطي له كامل حقه ، وعومل بكل بر وإحسان وعدل وإنصاف فأصبح سعيداً شاكراً مسروراً ، فأي المشهدين خير ؟
إن الإسلام ينكر الاحتكام إلى مبدأ القوة ، ويقرر أن القوة لله وحده ، فهو القوي المتين ، ولا ينبغي للإنسان أن يحتكم إليها ، ولا أن يتبجح بها ، فهي هبة من الله تعالى ، ولا فضل له في امتلاكها
ومهما بلغت قوة المرء فليست سوى أمر نسبي بينه وبين غيره من الناس .

__________________
فيصل الحداد
رد مع اقتباس