عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 20-07-2011, 07:33 PM
الصورة الرمزية أحمد الهديفي
أحمد الهديفي أحمد الهديفي غير متواجد حالياً
اللجنة الإعلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 123
افتراضي

عبورٌ على طرقاتِ المدينة

رأيتهم قبل ولوجي إلى داخل البيت، تلتحف أجسادهم السماء،لا مأوى يحفظ أرواحهم من الهلاك. مذ عرفتهم وهم منبوذون من الناس. يرتحلون من زاوية إلى زاوية أخرى في هذه المدينة الصاخبة؛ بحثا عن بقعة معتمة تقيهم شر ما يحيكه الليل في لجيته. هذه الأسرة الصغيرة مبنية من الأم وتؤمها والباقي لفظتهم المدينة منذ زمن.
يلعبون في الطرقات الأسفلتية الصماء، تغريهم ثغرة على حافة الأسفلت، تتنفس الأرض منها ترابا، ينثرون الغبار بأناملهم الصغيرة وهي تحفر في تلك الثغرة بحثا عن فرح لم تبتلعه المدنية بعد.
دخلت البيت معدوم الرغبة في لقيا أحد من سكانه، وكان لي ما أردت، بدأ المكان خاليا، مرهقٌ أنا اليوم حد الموت، تقتات من جسدي الأيام لترديني في أواخر عمري فتات!
يخنقني هذا الجو الكئيب من غرفتي، حملت هاتفي على عجالة وخرجت من البيت مسرعا. أوقفني شيءٌ ملقي على الأرض، لا يبدو من بعيدٍ ذا هيئة، اقتربت من السواد المكب على الإسفلت، صعقتني المفاجأة وأنا أرى التوأم المشرد ملقيا على الأرض. هززت رأسي كثيرا متعجبا قبل أقل من 10 دقائق كانا يجريان أمامي! والآن أجسادهم ملقية على الإسفلت اللعين!! أهما أموات؟ لا أعلم فتبدو أجسادهما مسلوبة الروح. أيعقل أن يكونا نائمين وسط هذا الصخب الموجع للشارع؟! وقفت أتأملهم دقائق مبهت الوجه. في تلك الفترة تخطتنا أجساد كثيرة مرت سريعًا من حولنا ولم يقف أحد منهم. في داخلي رغبة عاتية للاقتراب وقطع الشك باليقين أهم أموات حقا؟ ولكني أيضا لم أحرك ساكنا. نهرت نفسي كثيرا. فيباغتني صوت من أعماقي داكن باهت: وإن كانوا أموات فماذا بيدك أنت أن تفعل؟ دعك منهم وامض كغيرك كأنك لم ترهم، فيرد عليه صوت غائر يطالبني بالاقتراب ونزع الجبن من نفسي، ثم ما يلبث أن يعود ذلك الصوت الباهت قائلا: وهم أحياء لم يشغلا بال أحد فلماذا كل هذه الجلبة المصطنعة؟! دعهم إن كانوا أمواتا حقا فستأتي البلدية لحملهم هي أعلم منك بهذا الأمر ...ثم ما الغريب إن مات فقيرٌ مشردٌ؟ هذا قدرهم مثل قدرك. ربما لو وُجدوا في بلد مغاير لكان هناك الآن من يلقي آلاف الورود والقبلات على توابيتهم الفاخرة. هذا حظهم ان أجهضتهم الحياة في مجتمع ينازع الفقر. ودون إحساس مني وجدت نفسي أبتعد عنهم، وصوت من داخلي يعلو ...ينعتني بالآلاف من الاتهامات والكلمات القاسية. سيءٌ أنا وكل من حولي سيئون، قلوبنا سوداء كوجوهنا.
دون أن ألقي بالا للطريق وجدت نفسي أمام بيت رفيقي. سامرني قليلا وأنا شاردا بغفلتي، في نفسي حرائق لا تنطفئ تزداد اشتعالا، و فكري ما يلبث أن يبث من جديد مشهد التوأم كأن ذاكرتي ترفض أن تلعنه منها. لم أسطع أن أتحمل طويلا فالذنب يصلبني كالمقتول، توجعني كفوف الآلم التي يرسلها لي، قمت جريا، لأندهش، وأبهت، وأبتلع ملامحي في جوفي وأنا أرى التوأمين وقد عادا يلعبان ويجريان. ترتسم ملئ أشداقي ابتسامة حين أتذكر بأنهما كانا نائمين تأخذهم الغفوة إلى أوسع أبوابها. وها هم يعودان أمامي ينبشان الغبار بأظافر أقدامهما لينتشر الفرح في قلوبهما وينعم قلبي بفرح مكبوت وأنا أرى هذه القطط الصغيرة ما زالت تنهل من الحياة دقائق قادمة تنشر غبار الفرح في الجو فتعدمها زحمة الأبنية.

خلود بنت خميس المقرشية
رد مع اقتباس