عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 20-07-2011, 07:32 PM
الصورة الرمزية أحمد الهديفي
أحمد الهديفي أحمد الهديفي غير متواجد حالياً
اللجنة الإعلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 123
افتراضي

القصه الفائزة بالمركز الثاني

" جُونيَّة سَبُوس(1) "

قال لابنه وقد شارف على ساعة الحسم: "ضم السكاكين عن الغنم لا يشوفنهن! " .. كان ذلك صبيحة اليوم الثاني من عيد الأضحى، ترددت عبارة زاهر في ذهن ابنه الذي سأله عن السبب وراء ذلك فأوضح زاهر بأنه لا يفهم لغة السلاح الأبيض أحد أكثر مما قد تعيهِ الغنم !..
"شاة عجوز" كانت تنظر من أحد الشقوق الصغيرة التي كانت تفتح مداخل للهواء عبر جدار "الدرس(2)" ، تنظر لزاهر وابنه اللذين كانا يعدان لمراسم الذبح في ساعات الصباح الباكر وهي تستعيد ذاكرة طقوسٍ سابقة حسمت سابقا في مثل ذلك التوقيت من السنة كما جرت العادة!، فقبل الموعد المشهود تعودت عجوز الغنم أن ترى سخاء زاهر في ما يقدمه حصريا لـ تيوس القطيع الفتية، الفتية منها فقط !!.. يقدم القت الطازج والبرسيم والأعلاف الطرية التي يضِن بها على باقي القطيع طوال أيام العام إلا ما ندر ! .
كانت "الشاة العجوز" قد فقدت ابنيها الاثنين في مواسم سابقة، وباتت ترقب باقي تيوس القطيع متسائلة في كل موسم: "على من سيحين الدور؟؟!"، كانت تعد الأيام تنازليا بعد أول ليلة يأتي فيها زاهر وابنه بـ "جونية السبوس" الكبيرة لإطعام مجموعة معينة من التيوس ولمدة شهرين متتاليين حتى اليوم الموعود!! كانت تعي العجوز لمَ يفعل زاهر ذلك! ، فقد سمعته وهو يخبر ابنه حين سأله ذات مرة ؛ بأنه يجب إعداد جسد الأضحية بما يكفي لتكون دسمة وسمينة ..
استيقظت الشاة العجوز من سرحانها العميق على صوت فتح الباب الحديدي الذي كان يحكم فصلها والقطيع عن العالم الخارجي .
دخل زاهر وابنه سعيد إلى الدرس .. كانت الشياه تهرب من زاوية إلى أخرى وزاهر يطارد ! .. كانت جميع الغنم تهرب بما فيها فتيان القطيع إلا "الشاة العجوز" ليس لأنها عجوز لا تقدر على الجري ولكن لأنها كانت تعلم ـ على الأقل ـ أنها ليست المقصودة من هذه المطاردة.
أمسك زاهر بأحد التيوس الفتية، وبدأ يجره بقوة إلى خارج الدرس، كان التيس ممتلئا بغروره الشاب، حيث إنه الأقوى والأفضل، فأبدى تمردا شديدا وهيجانا كبيرا يظن منه سعيد أن والده لن يستطيع السيطرة على التيس.. لا زال التيس هائجا ولكن رغم ذلك تم اقتياده إلى الخارج .
جره زاهر إلى الخارج نحو زاوية تقبع على يسار الدرس، حيث أوجد هناك مكان الحسم!! .. عادت الشاة العجوز لتنظر عبر نفس الشق الذي اعتادت أن تنظر منه في كل مرة، حيث اتضح أمام ناظريها زاهر والتيس الذي بدأ يهدأ لسبب غريب لا تفصح عنه الأضحية، أو لم يسبق الإفصاح عنه..
صاح زاهر على ابنه سعيد قائلا "قرب الماي حل التيس عشان يشرب" كان ذلك أحد مراسم هذا الحدث.. فأتى سعيد بسطلٍ من الماء ووضعه على مقربة من التيس..
شرب التيس حتى ارتوى، فيما لا زالت العجوز تنظر للمشهد المعاد مرة أخرى..
كان الحال هادئا حتى أبعد سعيد السطل ووضعه في زاوية أخرى ليسبقه وقع عراك !! ، حيث تناول زاهر فجأة وبكل طاقته وقوته التيس من رجليه وطرحه أرضا بسرعة كبيرة إذ ثبته على أرض الحسم وأحكم تثبيته وأمسك بالسكين! .. هنا أغمضت العجوز عينيها فجأة ، وظلت تستمع لصوت التيس الهالك والأصوات المنبعثة من دمه النافر وتشرخات حنجرته المشدودة وصوت ترفسه بين الحين والآخر ..
هدأت الأصوات فجأة.. فتحت العجوز عينيها بعد لحظات من اعتراك الأصوات في أذنيها وتتابع المشاهد في ذاكرتها، فإذا بها ترى السكين البيضاء وقد احمرت ووضعت فوق جسد التيس الهالك وهو يترفس بثقل وهدوء بالغين حتى بدأت ترحل قوته إلى عالم آخر..!، أدارت الشاة ظهرها لنافذة الحقيقة التي كانت تنظر منها..!، وجلست في مخدعها المعهود وهي تعتزل كعادتها باقي الغنم!! ..
بعد ذلك اليوم توقفت إرساليات القت التي كانت تأتي لباقي التيوس، والتي كانت تطول الغنم بالقليل غير المقصود منها.. وتوقف السبوس عن القدوم على أحضان زاهر في جونيته الضخمة.. وعادت حياة الغنم إلى طبيعتها مرة أخرى!! ..
مرت الأيام تلو الأيام وأتى الموسم الجديد وقد كبرت فتيانٌ أخرى من تيوس القطيع !!..، وبدأ زاهر يطعم تيوسه القت والبرسيم مرة أخرى، وبينما كانت العجوز تتابع الحدث هذا مرة، إذ بدأت علامات اليوم الموعود بالظهور!! .. ففي صبيحة أحد الأيام كان زاهر يجهز جونية السبوس ليأتي بها إلى صـفــوة التيوس التي كان يعدها كي يختار من بينها " العيد " - كما كانوا يطلقون هذا الاسم على الأضحية- .. وبينما كان زاهر وابنه يجهزان الجونية، حمل الابن المشاغب شيئا من السبوس في كف يده مازحا؛ فملأ به فم أبيه عبثا في جوٍ يسوده المرح، مسح الوالد عن فمه بقايا السبوس العالق على شفاهه وهو يضحك ! .. وأنب ابنه وهو بالكاد يتمالك نفسه ضحكا.. كان هذا المشهد المضحك يرتسم على عيني الشاة العجوز من بعيد وهي خلف قضبان الباب الحديدي، حيث بانت عليها ابتسامة خافتة تعي أن العد التنازلي للشهرين السابقين لليوم المشهود قد بدأ منذ أن ظهرت جونية السبوس ..
بدأ يتبادر في ذهنها تساؤل غبي في نظرها ولكنه كان مجرد تساؤل : "هل تذوق زاهر السبوس ؟؟ ".. فجأة وجدت نفسها وقد تمددت عيناها على جونية السبوس الضخمة التي سد بها زاهر سرحانها اللامتوقف ليزيحها من وراء الباب حيث فتحه سائرا باتجاه صفوته التي اختارها ليغذيها بالسبوس كما اعتاد في كل موسم ..
استمر زاهر في تقديم السبوس طوال الشهرين لمجموعته المختارة من تيوس القطيع، حتى بزغ فجر ثاني أيام العيد الأضحى.
استيقضت الشاة العجوز قبل الجميع كالعادة متأهبة لتضع إجابة عن تساؤلها المتجدد.. "على من سيحين الدور ؟؟!" ..
تنفس الصباح حياته التي أمده إياها الخالق .. وبدأت تتضح قسمات الشمس للعيان، وأتى زاهر وابنه سعيد ليجهزا مكان اليوم الموعود ويخبئا السكاكين من جديد..
ترقبت الشاة العجوز من شق الجدار أحداث ذلك اليوم مثلما كانت تفعل قبل مراسم كل حدث ناظرة لـزاهر وابنه وهما يجهزان العدة وقد بدأا طقوس اليوم الموعود ..
فجأة !.. سقط زاهر من ناظر العجوز .. وقع على الأرض .. فَزِعَ الابن لأبيه بفجائية غريبة فأمسكه وهو يصرخ : "أباااااه .. أبااااه !!"
- زاهر ( الأب ) : ... !
- سعيد (وهو يلطمه على خديه محاولا إعادته لوعيه ) : "أباااااه .. أبااااه .. قوووم .. قوووم أباااه "
أجحضت العجوز عينيها بشدة حتى إنهما تكادان تعبران شق الجدار .. وأذناها تنتظران إجابة زاهر لابنه ..
ولا زال سعيد يصرخ .. "أباااه قوووم ... مالك؟؟ .. أبا قووم .. مووو فيك ؟؟ "
لا إجابة تخرج من شفاه زاهر .. ولا نفس من رئتيه .. ولا شيء يذكر !!
فأجاب الصمت بلغة الإيحاء : "مات زاهر"....!!

هوامش :
1 - طعام يقدم للغنم.
2 - مصطلح عامي وهو مسمى آخر للزريبة.


أحمد بن سالم بن عبدالله الكلباني
رد مع اقتباس