عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20-07-2011, 07:18 PM
الصورة الرمزية أحمد الهديفي
أحمد الهديفي أحمد الهديفي غير متواجد حالياً
اللجنة الإعلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 123
افتراضي

أنا حي ...

لم يكن هناك من أحد في الغرفة سوى أنفاسه التي أخذت بالتصاعد زفرة تلو الأخرى، ومع كل زفرة يطلقها جسمه النحيل تتدلى من بين مسامات جسمه قطرات عرق تفوح منها رائحة الجهد والتعب وذكريات ما زالت تتخلل شرايين مخيلته.
ظلمة تحيط بأسوار الغرفة بشكل يبعث لناظره بدوار شديد سوى ضوء ضئيل جدا أخذ يتخللها من خلال نافذة صغيرة معلقة على أحد جدرانها بحيث يضيء بشكل مباشر على لوحة موجودة على الجهة المقابلة.
أغمض عينيه المطبقتين من شدة الألم وأخذ يسترجع كل ما حدث له بسبب ذلك وكل ما حدث له فيما مضى.
ذهب إلى المدينة المفعمة بضجيجها ليبحث له عن عمل يستطيع به إعانة نفسه، فالقدر ساعفه بدرجة كبيرة على إكمال شهادته الإعدادية وذلك حينما كان والداه على قيد الحياة وبعدها تركاه ليواجه قدره بعدما أخذهما القدر بعيدا عنه في حادث مروري.
واجه صعوبة كبيرة في البحث، فلم يكن من السهولة عليه الحصول على عمل، كانت مهنة تقديم القهوة في إحدى الشركات المترامية على قارعة الشارع المزدحم بدخان السيارات ربما أرضت بعضا مما تأمل به نفسه .
لم يكن حين خرج من قريته في إحدى الصباحات الباكرة يعلم ما يواجهه في المساء، كان الجو حينها تعتريه بعض الهمسات الباردة التي أخذت تلطم وجهه.
رجع إلى قريته بعد يوم مكتظ بالعمل ولكنه فوجئ عندما رأى بقايا دخان تنبعث من بيته وبقايا رماد متناثرة هنا وهناك تحتضن ما تبقى من آثار كانت شاهدة يوما على حياته، آثار طفولته التي تذكره دوما بأبويه والممزقة أشلاء بين كومة من رماد خامل، آثار شهدت وحدته واعتصرت آلامه.
أحس بيد ضعيفة تربت على كتفه انتشلته حينها من ماضيه، التفت قليلا فلم يجد إلا سالما، سالم ذلك الشخص الذي اتهمه الناس بالجنون، لم يعره اهتماما في البداية؛ لأنه كما عرف عنه عند أهل القرية لا يتكلم سوى من بعض تمتمات كانت تخرج من فمه، لكنه تفاجأ عندما سمعه يتحدث محاولا مواساته في مصابه وإخباره بأن ما حدث له كان بسبب مجموعة من الفرقعات التي كان يعمل بها بعض الصبية، وأن جيرانه عندما شهدوا ذلك حاولوا قدر استطاعتهم إخماد ما اشتعل في أرجاء البيت ولكن دون جدوى.
كل ذلك وهو قد شده ما رأى وما سمعت أذناه، فلم يكن يصدق، فذلك كله حاول أن ينسيه بعضا مما حدث له، لاحظ سالم ذلك فحاول أن يوضح له الأمر، وقبل أن تخرج بضع كلمات من فمه التي أوشكت أن تفصح وتبدد استغرابه التفت سالم وأدار ظهره للوراء، لأنه علم حينها بأن كلامه لا فائدة منه، فما ترسخ في أذهان القرية وما نعتوه به من جنون لا يمكن تغييره .
أين يذهب الآن وفي مثل هذا الوقت؟
أخذ هذا السؤال يتردد على تفكيره فلم يجد بدًّا من الذهاب إلى بيت عمه، وفعلا ذهب إلى هناك ولكن عمه سكت في البداية ثم قال: لا أستطيع استضافتك إلا لهذه الليلة فقط وبعدها ابحث لك عن مكان آخر، فلدي خمس بنات وأنت تدري بأن وجودك بينهن لا يصلح.
لم يكن منه إلا أن هزَّ رأسه بالموافقة، وفعلا عندما بزغ أول خيط من الصباح خرج من بيت عمه تاركا له رسالة تحمل بين ثناياها بضع كلمات معدودة ترتلها أسطر فارغة "شكرا لك على استضافتك لي الليلة الماضية... شكرا لك".
قطرات الندى ما زالت تتساقط من بعض الوريقات محتضنة وريقات أخرى محاولة مسح ما علق على حوافها من وسن وتنظيف ما علق بها من إفرازات ليلية، خرج مغادرا قريته حاملا معه كل ما يحتويه جسمه من ثقل ذكريات تتعلق بقريته ، خرج على أمل أن يعود إليها مرة أخرى، خرج وكل نفس في أغصان الأشجار يعده بأنه سيرجع إليها مرة أحرى.
ذهب إلى المدينة التي استقبلته بكل ما فيها من صخب وحركة، حاول أن يبحث له عن شقة بعدما قضى نصف يومه في العمل، وفعلا وجد شقة صغيرة جدا بما كان قد جمعه سابقا من مال، أودعها أول ما عتبت قدماه بابها حزنه وألمه ،ووضع في كل ركن من أركانها ما تبقي له من ذكريات قديمة ؛ بحيث يتسنى له في كل مرة يعود فيها من عمله أن يعيش بعضا مما أودعه جسمه من ذكريات.
استمر حاله هكذا لعدة أسابيع حتى طرد من عمله ذات يوم بسبب اتهامه ظلما من قبل أحد أفراد الشركة، فقد اتهم بسرقة مائتي ريال من مكتب المحاسبة التي كانت كثيرا ما تحاول أن تستجلبه ناحيتها كلما ذهب ليقدم لها القهوة أو للمدير، ولأنه كان في كل مرة يُعرِض عنها ولأن محاولاتها جميعها لم تنجح فقد ادعت بفقد هذا المبلغ من خزانتها والذي سحبته نهار اليوم لتقوم بتوزيعه على العمال، ولكن بسبب وصول رسالة مهمة ومستعجلة للمدير اضطرت أن تضع المبلغ في أحد الأدراج ريثما تعود، ولهذا السبب لم يكن هناك قبل ذلك إلا هو بينما كان يضع لها كوب القهوة الساخن على الطاولة.
وهكذا تم تصديقها لأنه طبعا هناك من كان يقف بجانبها، ولأن الرأس الكبير كان يقدم لها كل شيء حتى يستطيع هو بالتالي تحقيق مطالبه منها.
خرج من هناك وآمال الخيبة تجر اذيالها وراءه، خرج ونظرات الخزي والعار تلاحقه بخطوات حثيثة، خرج وفي نفسه كره للعالم من حوله وكره لطموحاته التي لم تتحقق.
فتح باب الشقة الذي نسي في الصباح ان يغلقة خوفا من تاخيره عن العمل، دخل وعيناه تودعان هذه الشقة أحزانا أخرى، فلم يعد هناك في هذا الوجود من يودعه أسراره وأحزانه سوى شقته.
جلس على كرسيه المتأرجح أمام النافذة وسيل أفكار متشتتة تعوم في مخيلته، حاول قليلا أن يطبق جفنيه علّه يستريح قليلا من عناء الحياة، وشيئا فشيئا استسلمت عيناه لذلك.. حاول بعد ذلك أن يعيد فتحهما ليبدأ حياة جديدة ولكن عينيه استسلمتا للأمر ولم يكن لديهما رغبة في الحياة من جديد.
خرج أحمد من غرفته التي انبعثت منها رائحة البطانيات المنثورة هنا وهناك، والستائر التي ما زالت تحجب عنها أشعة الشمس، وجد صديقه ما زال على كرسيه منذ ليلة البارحة عندما كان غارقا بمشاهدة التلفاز.
ناداه من بعيد ولكن صوته عاد أدراج الرياح، اقترب منه قليلا.. هزّ كتفه مناديا: ناصر.. ناصر.. قم لقد تأخرت كثيرا عن عملك..
يهزه في المرة الأولى والثانية ولم يجبه حتى سكب عليه الماء في المرة الثالثة، نهض ناصر منتفضا وعينيه في أحمد والغرفة والماء المنسكب على ملابسه وكل شيء، وأحمد ينظر إليه باستغراب، بعدها قهقه بصوت عال وهو يقول: أنا حي.. أنا حي، وخرج من الشقة وهو يردد: أناحي.. أناحي، وأحمد لم يفهم شيئا من ذلك.

لينا بنت زاهر الخصيبية
رد مع اقتباس