عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-11-2010, 07:05 PM
نجيب البركاتي نجيب البركاتي غير متواجد حالياً
كاتب جديد
 
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 5
افتراضي الحمل ـ نجيب البركاتي (تونس)

الحمل

هـــــــــــــــــــــذا الحمل كم أصبح يقلقني، هذا الحمل كم أصبح يمثّل عبئا ثقيلا.
يا إلاهي ، يا تاريخي الحافل بالرّجولة ،هل من حلّ يذكر؟
الطّبيب عدّل نظّارته و مطّ شفتيه ثمّ قال ببرود:"آسف لو كنت أتيتني منذ زمن لكنت ساعدتك أمّا الآن فأنت في مرحلة متقدّمة من الحمل والإجهاض يمكن أن يسبّب لك مضاعفات صحّيّة خطيرة و ربّما يودي بحياتك وعلى كلّ فمرضك هو مرض عاديّ إذا قارنّاه بالإيدز والالتهاب الرئوي.
" مرض حمل الرّجال العرب" هو مرض جديد نسجّله أي نعم ولكنّه مرض عاديّ، لا يجب أن تتعجّب يا سيّدي ففي عصر الإيدز كلّ شيء ممكن و مهما يكن من أمر لا تقلق فيمكن أن تنجب كائنا سويّا، من يدري.
هكذا قال الطّبيب ببساطة أما أنا فرحت ألوك همّا و حسرة لا متناهيين .
يا تاريخي الحافل بالرّجولة .
يا تاريخي الحافل بالفحولة، هل من منقذ من وصمة العار هذه ؟
با إلاهي إلى متى أظلّ في هذا السّرداب المظلم ألوك هما تنوء بحمله الجبال و هذا البطن اللّعين كلّ يوم يزداد انتفاخا.
أتحسّسه، أدعكه بيسر، أمرّر يدي على مختلف جوانبه.
يا إلاهي، الشّعر الكثيف الذي كان يغطّي صدري و بطني بدأ يتساقط و يترك مكانه لجلد أملس ناعم يثير منظره التقزّز.
يا للهول حتى الثدي بدأ يرتخي و يتهدّل.
أخرج من السرداب، أمشي بحذر على أطراف أصابعي، أنظر إلى أبنائي النائمين في غرفهم.
أقف أمام المرآة في قاعة الاستقبال ، أنظر إلى جسدي المترهّل.
أتحسّس وجهي.
أبحث عن بعض الشّعيرات هنا و هناك، ما هذا النّمش في الخّدّين والجبهة ؟
يا لوعتي، نظرتي النّاريّة الحادّة فقدت بريقها و عوّضتها نظرة مستسلمة بريئة فيها من الخفر و الذلّ شيء كثير.
أعاني من رغبة في الغثيان .
هذا العالم كم أصبحت أمقته، هذا العالم ليس لي.
يا رجولتي الضّائعة أدركيني.
يا رجولتي المسلوبة هل تسمعينني؟
أرغب في الدّخول إلى بيت الرّاحة ، دقّات قلبي تتسارع، أقف بالباب، أتراجع قليلا ، أضيء الفانوس ثمّ أطفئه، أضيئه مرّة أخرى، أنظر في آلة الحلاقة الفخمة، أنظر في معجون الأسنان الرّجاليّ، أتنهّد، أردّد : آه يا رجولتي.
يا للفضيحة ما بال صوتي يخرج خافتا ناعما ؟
آه ضاع صوتي.
ضاع آخر ما يميّزني عن بنات حوّاء، لا، لا مازلت أتميّز بشيء إن ضاع سأقول على رجولتي السّلام ، سأقول وداعا يا رجولتي .
سأقول ذلك همسا و بصوت نسائيّ لا غبار عليه.
أغلق باب بيت الرّاحة بالمفتاح ، أتأكّد من غلقه.
يدي ترتعش ، أتنفّس بصعوبة ، دقّات قلبي تتسارع.
أنظر في المرآة، أتأمّل ملامحي جيّدا، ترى هل مازلت أحتفظ ببعض ملامح الرّجال أم أصبحت كائنا هجينا ممقوتا.
يا لتعاستي، ما هذه الاستدارة في حاجبي وهذه الشّعيرات الرّقيقة الّتي تميّز النّساء المتنمّصات و يا شعري الأجعد أين أنت ؟
ما هذا الشّعر الأملس الّذي يكاد يصل كتفي؟
أعاود التّأمّل في بطني، لقد ازداد حجمه عماّ كان عليه منذ دقائق.
أتحسّسه بريبة ، أتحسّسه بخوف و قرف.
ترى أيّ مخلوق تحوي يا بطني، هل تحوي ذكرا أم أنثى، إنسانا أم حيوانا، مخلوقا خرافيّا أم سويّا ؟
آه يا رجولتي.
آه يا ذكورتي أما آن لك أن تدركيني.
لقد عشت بشرف طوال خمسين عاما ولم أتنكّر لتاريخي الحافل بالأمجاد و الذّكورة.
أتثبّت في إحكامي لغلق باب بيت الرّاحة.
أرفع الفستان ، يداي ترتعشان،أبحث عنه ، يا للفضيحة ماذا يحدث لو لم أجده ، إنّه آخر عنوان على الرّجولة الضّائعة.
أتحسّسه و يدي ترتعش.
إنّه ما يزال على قيد الحياة لم يمت بعد ، لكنّه لماذا أصبح ذابلا كمصران في مزبلة .
يا عنوان رجولتي كم هتكت عذارة النّساء وكم كانت لك صولات وجولات.
ترى كم يلزم من الوقت ليموت عنوان رجولتي تماما ، وعندما يموت أيّ عضو سيصبح لي ؟
وزوجتي يا زوجتي المصون ، الوفاء عندك سراب خلّب.
آه من زحف الأنوثة يا زوجتي .
آه يا فحولتي أدركيني .
يا زوجتي هل تذكرين نهما في عينيك و استجداء لفحولتي ؟
أفتح باب بيت الرّاحة، أخرج، أقف أمام غرفتي، أقصد الغرفة الّتي كانت غرفتي.
ما بال زنودها الملساء لا تثيرني و يا شعرها الحريريّ الأشقر كم استنشقت رائحتك وغطّيت بك وجهي !
تتقلّب زوجتي في فراشها، تتثاءب، تتنهّد، ترى في ماذا تفكّر ؟ وهؤلاء الصّبايا العذراوات الكواعب بناتي من سيحميهنّ من غوائل الدّهر؟
يا إلاهي أكاد أجنّ، أما آن لهذا الحمل أن يجهض؟
يا فحولتي الضّائعة، هل من منقذ من ظلال الأنوثة ؟
يا تاريخي الحافل بالرّجولة ، أشهد أنّني لم أكن يوما خائنا لمبدأ الرّجال فماذا دهاني؟
يا رجال العرب أدركوني ، أغيثوني.
وامعتصماه هل من منقذ؟
أمشي على أطراف أصابعي، الكلّ يغطّ في نوم عميق.
أقترب من خزانة الأسرار، أبحث عن المفتاح ، مازال في مكانه الأمين.
أفتح الدّرج الأوسط آخذ " ألبوم" الصّور، أتصفّح صور من كنّ بالأمس حبيباتي.
هذه وفاء...و هذه غادة ... و هذه رانية...
رانية كانت تحبّ صوتي الجهوريّ القويّ.
آه يا صوتي الضّائع .
وهذه ،هذه صورة و فاء كم كانت تحبّه و كم كان يحلوا لها مرآه ،آه يا عنوان رجولتي.
يا آيلا إلى السّقوط ، آه يا خيبة المسعى.
و هذه صورة ذكرى.
مرّ عليها زمن طويل حتّى كادت تغدو أثرا بعد عين.
أين أنت يا ذكراي أيّ الخرابات حوتك؟
ذكرى، آه يا ذكرى كم كان يعجبك منظري و أنا أهتف فوق الأعناق ملوّحا بقبضتي مستخفّا بكلابهم و عصيّهم الطّويلة .
أمدّ يدي إلى الدّرج، آخذ لوحة خشبيّة كتبت بخطّ آية في الجمال، كانت اللّوحة بإمضاء رانية.
أقرأ اللّوحة المكتوبة بخطّ كوفيّ جميل فترحل بي إلى زمن مضى.
و نحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.
و نرقص بين شهيدين نرفع مئذنة للبنفسج.
بينهما أو نخيلا *(1)
أقرأ اللّوحة الثّانية بالخطّ المغربيّ
لقد عطشت طويلا أيّها الجمل
لقد مشيت طويلا أيّها الجمل
فهودج أنت للسّلطان مرتحل
وأنت قربان من حطّوا
و من رحلوا *(2)
آه يا تاريخي الباذخ بالرّجولة ، أنقذني من الظّلال
إنّي أتهافت ،إنّي أتهافت.
أقرأ المعلّقات الحائطيّة المذهّبة
حكّم سيوفك في رقاب العذّل و إذا نزلت بدار ذلّ فارحل*(3)
لا يسلم الشّرف الرّفيع من الأذى حتّى يراق على جوانبه الدّم*(4)
يا تاريخا حافلا بالأمجاد ، هل من مجيب؟
أمدّ يدي إلى كتاب الشّيخ النّفزاوي" الرّوض العاطر في نزهة الخاطر"، أتصفّحه بسرعة ، أقتطع بعصبيّة الجزء الخاصّ بأسماء الأيور ، هذا الجزء ما عاد يهمّني .
آه كم جلست مع الأصحاب و كم شنّفت أسماعهم بما أحفظه من أسماء الأيور.
يسقط التّقرير الطّبّي اللّعين من بين طيّات الكتاب.
أرفعه،أقرأ كلمات الطّبيب الأمريكي"كولن أولبرايت"، أقرأ بصوت منخفض ، تختلط الكلمات ، تتداخل ، تتلاشى ، أصاب بالدّوار، أكمل القراءة ....." و بناء على ما تقدّم نتأكّد أنّ المرض الّذي يعاني منه المدعو قحطان القريشي هو مرض "حمل الرّجال العرب" وهو من أمراض العصر، يصيب العرب خاصّة ، أسبابه نفسيّة فكريّة ، تبدأ أعراضه عادة بالصّمت و اللاّمبالاة و تحتدّ عندما يصاب الفرد بما يسمّى إظطراب المزاج Troubles de l’humeur بالإضافة إلى الهلوسة و العصاب الهستيري و هو مرض يصعب الشّفاء منه لكنّ الشّفاء غير مستحيل بالنّسبة إلى ذوي العزائم القويّة و الغريب في هذا المرض هو أنّه يتطوّر بسرعة و صاحبه يمكن أن يضع في أيّة لحظة ".
أنهي قراءة التّقرير،تستبدّ بي آلام رهيبة.
يا إلاهي، هل تكون آلام الوضع ؟ ما هذا المغص الّذي أشعر به؟
يا إلاهي من أين سيخرج المخلوق التّعيس؟
هذا سؤال لم أطرحه من قبل ، من أين سيخرج و كيف سيكون شكله؟
الآلام تحتدّ ، أشعر برغبة في الانبطاح ، أنبطح ،أرفع رجليّ،أصيح بصوت نسائيّ لا غبار عليه .
يا لوعتي ، يخرج المخلوق من صرّتي، أشعر بعنوان رجولتي يتلاشى و ينكمش، يخرج رأس المولود ، رأسه ضخم و شعره أ صفر ، عيونه خضر، آه ما أكبر حجمه ،يخرج ، يخرج ، دمي ينزف ، يغطّي أرضيّة الغرفة.
المخلوق ينظر يمنة و يسرة ، إنّه يحمل لباسا أخضر مبرقعا ،إنّه يصرخ في وجهي stop craying إنّي أنزف، آلامي تحتدّ ، أصرخ،أصرخ، أصرخ و فجأة أجد زوجتي تطّوقني بذراعيها ، تنظر إليّ بدهشة تقدّم لي كوب الماء و هي تبسمل.
أنظر إلى كوب الماء،أشعر بعطش كبير،أتحسّس جسدي ،أعضائي كاملة ،أعدّها عضوا عضوا،أتحسّسه ، مازال في مكانه، و بطني اللّعين يعلو و ينخفض و لا أثر للحمل.
أنظر إلى أشرطة الفيديو قبالتي،لقد نمت على مناظر مقزّزة.
أنظر إلى كوب الماء، مازال بين أصابع زوجتي،أمدّ يدي ، أتحسّس بطني، أردّد :"اللّهم إنّا نعوذ بك من غلبة الرّجال و سوء المنقلب،اللّهمّ فرّج كربتهم واسحق عدوّهم، آمين يا ربّ العالمين"





(1) مقطع من قصيد لمحمود درويش
(2) مقطع من قصيد"سفر- سفر" لمعين بسيسو
(3) بيت شعري لـعنترة بن شدّاد
(4) بيت شعري لأبي الطيّب المتنبّي
رد مع اقتباس