عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-07-2010, 01:19 PM
الصورة الرمزية عبد الرحمان رشيد التواتي
عبد الرحمان رشيد التواتي عبد الرحمان رشيد التواتي غير متواجد حالياً
كاتب جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: قفصة ، الجمهورية التونسية
المشاركات: 19
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى عبد الرحمان رشيد التواتي
افتراضي كلب ينبح على " مشينة " *

كلب ينبح على " مشينة " *

كان عندنا في قديم الزمان كلب متحمّس جدّا ، ينبح لأتفه الأسباب ، و تستفزّه أدنى حركة . ضبطته مرّة يحاصر خنفساء خلف الدار ، و ينبح نباحا متواصلا كأنّما يحاصر سبعا ضاريا . و مرّة أخرى سمعته يقلب الدنيا نباحا ، فقلت لعلّه ضفر بلصّ يتربّص بمنزلنا ، فإذا به يتابع ظلّ شجرة صغيرة كانت الرّيح تحرّك أغصانها فيتحرّك ظلّها.
كلبنا هذا أصبح موضوع تندّر عند الأجوار . يقولون كلب دار فلان تافه و أبله ، يظنّ كلّ ما يتحرّك هدفا ، و يتوسّم فيه خطرا داهما ، و لعلّهم يقولون أيضا الكلاب على أمثالها تقع .
حدّثته يوما حديثا هادئا . قلت له :
ـ اسمع يا كلب يا ابن الكلب ! لقد جلبت لنا الخزي و العار ، و جعلتنا أضحوكة بين الناس . تعقّل قليلا و دع التفاهات . ليس كلّ شيء تراه يتحرّك مدعاة للنباح . ادّخر نباحك لمسائل أهمّ ، فالدّهر طويل ، و أعمار الكلاب طويلة كذلك . ستصادفك مناسبات أخرى تحتاج فيها إلى نباحك . لا تبذّر طاقتك في ما لا يعني . ثمّ نحن لسنا وحدنا في هذه القرية ، حولنا أجوار لا يفوتهم شيء . كلّ حركة يسجّلونها . و أنت تمتّ لنا بصلة و ما تأتيه من حماقات يحسب عليك ، و علينا .
ظلّ يستمع إليّ في صمت حتّى خلته قد أدرك صواب كلامي و استوعب الدّرس .
...
ذات يوم وفد على القرية أناس غرباء ، ألوان جلودهم و عيونهم تختلف عن ألواننا ، قيل إنّهم مستعمرون جاؤوا يعمّرون البلاد . فاستبشرنا خيرا و انتظرناه ـ أي الخير ـ . مهّدوا طريقا ثمّ مدّوا عليها سكة حديدية لا نعرف مبتدأها و لا منتهاها . بعد أيام دخل القرية قطار طويل كيوم صيف . عربات يجرّ بعضها بعضا ، هذه ملتصقة في مؤخّرة الأخرى . أحدث صوت القطار ضجيجا هائلا ، و أزّت عجلاته أزيزا حادّا يثقب الأذن . وقفت كغيري من الخلق أتفرّج على القطار يمرّ أمامي ، و معي الكلب . كان هادئا في البداية ثمّ أخذته نوبة نباح . كان و هو ينبح يهمّ بين الحين و الحين بمهاجمة القطار ، و أنا أردّه إلى الصواب ، فيتراجع قليلا ثم يعيد الكرّة . يكرّ و يفرّ ، و القطار الذي لا يكاد ينتهي ماض في طريقه الحديدية لا يعبأ بنا . أنهك النباحُ الكلبَ و لم يتوقّف .
انتبهت إلى أحدهم كان يقف مثلي و مثل الكلب ينظر إلى القطار ، كان مبتسما ابتسامة ساخرة . انتظر حتّى ابتعد القطار و لم يعد ضجيجه يصلنا ، و قال :
ـ هه ، كلب ينبح على مشينة .
أحسست بالخجل من نفسي و من الكلب ، و أحسّ الكلب بالخجل مثلي .
منذ ذلك الحين توقّف كلبنا النبّاح عن النباح المباح .
أمّا قول الرجل فقد ذهب مثلا يُضرب في القرية ثم انتشر إلى القرى المجاورة حتى عمّ البلاد بأسرها . سمعت مؤخّرا أنّه بلغ أقاصي الدنيا .

أفريل 2010
*المشينة : كلمة دخيلة من الفرنسية و تعني الآلة عموما ، و لكنّها تستعمل بمعنى القطار عند أهل الجنوب التونسي .
رد مع اقتباس