في الطريق إلى المرأة العجوز
حينما أخبرتني تلك المجنونة أن علي الذهاب لامرأة عجوز ، وأنها ستساعدني في الأمر ، اختلطت بي
الظنون ، حتى أصبحت أفكاري تأخذني إلى هنا وهناك ..
كان لدي إحساس بأن ما تقوله الجنية مجرد خيال ووهم ، أو أن تجعلني أتعامل مع الجن والسحر ،
فكنت أخطو خطوة للوراء ، وأخرى للأمام ..
إلا أنني عزمت النية ، وتوكلت على الله ، مع يقيني بعدم الاقتراب من عالم الجن .. مهما كان الأمر ..
وبدأت المسير ، فالمسافة بعيدة ، وفي محفظتي مبلغ لا يتجاوز السبعة ريالات ، وهل يكفي هذا المبلغ
لاحتياجاتي في تلك الرحلة القاسية ؟
وتبدأ الرحلة ، وحينما جاء الطائر ؛ ليكون رفيقي في ذلك الدرب ، مررنا بعوالم غريبـــــــــــة ، وكنت
أرى الوطن العربي برمته ، وأشم رائحة العروبة ، وعبق الشيح ، والقيصوم والزعتر ، والبابونج من
كل مكان ،، فما أجمل عروبة كرمنا الله بها !
حتى الأشواك لها رائحة ، والأعشاب البرية تشرح الصدور !!..
يا الله !! أهو عشقي لريم الفلا ؟!
أم أن حقيقة الأمر كذلك ؟!
لكن الطائر ينظر إلي وكأنه يقول :
لا عليك ، ولنمض في الطريق ، ولا تجعل الظنون تثبط فيك العزيمة ..
ونهبط بعد عناء السفر ، فالطائر يهبط قرب نهر الأردن ، وهناك طلب مني أن نقوم بحفر خندق
وممرات ، تصل إلى مسافة ستة كيلو مترات .. وذلك لأننا قرب حفرة الانهدام الإفريقي الآسيوي
..والجاذبية الأرضية تذكرنا بتلك التي فوق القمر ..
ويذهب الطائر قليلا ، وأبقى وحيدا في الخندق ، والإرهاق يسيطر علي ..
وفي تمام الساعة الواحدة ليلا :
أي بعد منتصف الليل ، سمعت صوتا غريبا ، صوت طفل ، أو طفلة صغيرة تبكي بصوت يملأ المكان
حزنا ..
يا الله ! أهذا حلم ؟ لا والله ، إنني لم تغف عيناي قط حتى الساعة ..
جلست قليلا ، حيث لا بشر ، ولا منازل ، ولا مظاهر إلا لحيوانات الليل ، والبهائم ..
طفلة تصرخ والبكاء كأنها تصرخ من الجوع أو أنها فقدت والديها ..
لم أجد مصدرا للصوت الذي انقطع فجــــــــــأة ، وكأن الصوت قد أعلن النهايــــــــــة حينما بدأ
يتضاءل صداه ، فأصبت بالفزع ، وشعر رأسي يذكرنــــــي بتمايل سنابل القمح في سهول حوران
حينما يداعبها الهواء ، ثم يقف فجأة راسخا في مكانه ..
لا بد أنه قد تغير لونه ، ليس خوفا ، وإنما هو الحزن يلفني بثيابه على ذلك الطفل/ الطفلة .. ويأتي
الصبـــاح ونستعد للسفر ، بعد تناول قطعة من الحلوى ، كانت في "زوادة" السفر ..
قادني الفضول في الصباح أن أسأل أحد المارة ، فيعلمني بأن ذلك الصوت قد يكون قرينة طفلة ماتت مرضا هنا قبل سنوات ، ودفنها أهلها هنا ..!!
سبحان الله !! قلت له : "ممكن" "كل شي يصير" ولكنني لا زلت أتعجب مما حدث لي ..
ويلاحظ الطائر الحزين ذلك الحزن ، فينظر إلي ، ويعطيني إشارة بالأمل ..
ها نحن الآن نحلق فوق بلاد الشام ، ونتجه إلى الخليج العربي الجميل ، ثم نطوف قليلا فوق بـــــــــلاد
المغرب العربي ، ولا أرى بلادا في العالم أجمل من العروبة .. فالحمد لله ..
وحينما اقتربنا من الأرض ، هزني الشوق لريم الفلا ، فلم يغب طيفها عني ولا زال قلبـي ينبض بأروع
الذكريات ، فلعل اللقاء قريب ..!!
كهف غريب في قمة الجبل ، فكيف الوصول إليه ؟!! لا بد أنه يتطلب مني مغامرة في الصعود إليه ..
يذهب الطائر الجميل قرب البحر ، وكأنه ينتظر ريم الفلا ليطمئنها عني .. ثم سيعود بلا شك ..
وحينما وصلت إلى الكهف ، ولم تبق إلا خطوات قليلة بعد منعطف ، سمعت أصواتا غريبــــة ، عقدت
النية ، وتوكلت على الله .
إحساس بالخوف من المجهول ، ورغبة جامحة للتضحية ، فـ ريم الفلا تستحق أن أمــــــــــــــوت لأجل
عروبتها ..هذا هو الإحساس أوجز قليلا منه ..
خلقٌ كثير في الداخل ، ولكن لم أجد أحدا كما أعلمتني فتاة تنظر إلي من بعيد ، وبجـــــــانبها دب أبيض
وهي تشفق علي ، وترى ملامح مخلوق ، تحكي تعاريج وجهه قصصا للحزن والقهر ، وتقول :
لم يسبق في حياتي أن راجع المرأة العجوز ، رجل في قلبه حزن كحزنك ،..لا تخف يا أخي فأنا معك ..
والله معك ..!
تذكرت قول أمي – رحمها الله - وهي تقول :
"يا رب ، يا يمه ، يحبّب خلق الله فيك ، وتروح ، وتجي ، محبوب مثل الملح عـ الزاد"
لم أكن أحب الملح كثيرا ، ولكنني أحببته فدعوة صادقة منها ، تجعل الملح أعذب من الشهد ..
الأمر يستدعي بضعة أيام كما يبدو ، فالمراجعون كثر ..، وكل يسرد قصة حياته ..
لا بأس ، فسنقيم في المكان أنا وطائري الجميل ...
لا حاجة لي بالنقود هنا ، لذا سأعطيها لأحد الفقراء، مهما كان المبلغ القليل ، فالنقود هـــــنا لا
جدوى منها ..
وأما الطائر فيقول لي : يا مخاوي البيداء ..وثق رحلتنا في فيلم يبقى لنا ذكرى في الحياة ..
ونصل قرب كهف العجوز ونسمع بكاء مريرا هناك.
لا بد أن في الأمر سرا ، سننتظر ، فالقادم جميل بمشيئة الله ..!!