عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 31-08-2013, 02:09 PM
الصورة الرمزية يزيد فاضلي
يزيد فاضلي يزيد فاضلي غير متواجد حالياً
عضو هيئة الشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: شرق الجزائر
المشاركات: 1,011

اوسمتي

افتراضي .

لطالَمَا تسامتْ رُوحِـيَ التي تسري في كياني إكباراً وتأثراً وأنا أقرأ تلكَ العبارةَ البليغة َالمختـَــصَرَة التي طالما ترددتْ في كتب السيرة النبوية الشريفة،حين وَصْفِ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في تجردهم وإخلاصهم وتفانيهم العجيب في حب الله ورسوله وإعلاءِ راية الديـــن..

لقد قيلَ فـيهم : (( إنهم كانوا من الإخـــــلاص لله تعالى حتــى خـَـلَـتْ نفوسُـهُمْ مِـن حــظ نفوسِهم..!! ))..

عبارةٌ-أختي الكريمة أمواج-بليغة،أثيرةٌ،عظيمة ُ الدِّلاَلَــةِ،كبيرة ُ المعنــــى ولا ريْب..وهي تـُـبْرقُ لقلوبنا وعقولنا أن السرَّ الحقيقي في تثبيت القوم وتمكين الله لهم يكمن أساساً في شحنة ( الإخـــــــلاص لله تعالى ) التي كانتْ تـُــغـذي شبَكَــــــة َ الأقوال والأعمال في حياتهم كلها،فتجعلهم في منآى عن تأليهِ الذات ومطامع الأنانية..

ولما كانَ الإخلاصُ-أحبتي-قائماً على التجرد،فإن روادَه في دنيا الناس قلائلُ،وأنفارُ المخلصين دائماً بين الحشـود لا يظهـرون إلا على ندرة..!!

لـذا قيل لأحـد الأعلام العارفين ؛ لِمَ الإخــــــــــــلاصُ صعبٌ على النفس..؟!!..

فـــــرَدَّ : (( لسبب بسيطٍ ولكنه جَــلَلٌ..إنــــــــــــــه ليس للنفس حـظ ٌّ فيــه..!! ))،بمعنـى ؛ أنه لو كان لنفوسنا نصيبٌ دنيويٌّ من الإخـلاص لوجدنا الوَرَى كلَّـهم مخلصين..!!!

المخلصـون العاملون في صمت السندان قليلون جـِدًّا في أي مجتمع،يَصْـدِق فيهم قولُ النبي صلى الله عليه وسلم في ما صَـحَّ عنه في الحديث (( الناسُ كمائةِ إبل،لا تكاد تجدُ فيها راحلة ً..!! ))..

ولكنَّ هذه القلة هي التي تحمل ببركتها سفينة َالمجتمع المسلم لتصلَ به إلى بر الأمان و بأقل التكاليف والمغارم والخسائر الممكنة..!!

فهل ياترى بَـصُرْنا في أقوالنا وأفعالنا،فانبريْنا لأنفسنا وذواتنا بالحَـرَز والتمحيص،نراقبُ مؤشِّـرَ الإخلاص وأين استقرَّ به الاتجاهُ في قـَـبُول الأعمال وصحائف الجزاء،أم إن شوائبَ من علائق الأثـَـرَةِ وشهوةِ النفس خالطَتْ كثيــــــــــرَ صلاحِنا بقليل طــلاحنا فانقلبْنا على وجوهنا-والعياذ بالله-نندبُ خسرانَ أنفسِنا،وما نحن بالصدق مع ذواتنا بمُـوقنين..؟؟!!!

إنـه لا يمكن أن يجتمعَ إخـلاصٌ لله في قلبِ امرىءِ مسلمٍ مع حـظ ٍّ من دنيَا أبداً،أبداً...

أحدُ العارفين بالله-وأظنـــه بشر الحافي رحمه الله ورضي عنه-يرسلُ برسالةٍ رقيقةٍ إلى أحد طــلاَّب العلم الناجحين،يوصيــهِ بوصيةٍ تُكتَبُ بماءٍ من ذهبٍ..أذكرُ منها هذه الرقائق الشامخـة:

(( ...أما بعـد،فإنـكَ قدْ أصبْتَ بظاهر علمِكَ عندَ الناس منزلَـة ً وشرَفاً،فاطلبْ بباطن علمِكَ عند الله منزلة ً وزُلـفـَـى،واعلمْ بأنَّ إحدى المنزلتيْن تمنـَـــعُ عن الأخــرَى...!!! ))..

ثم هناكَ شيءٌ في مفهوم الإخلاص-أختي الكريمة-ينبغي علينا تجليتـُهُ والوقوفُ عليه :

إن إخلاصَ القلب والنيةِ لله تعالى سِيَاجُ العِــزِّ وضمان الفوْز والفــلاح في الداريْن...

وعندما تصدقُ النية بتمام الإخلاص،لا يَخشى العبْدُ المؤمنُ من إسرارٍ في العبادةِ أو مجاهرةٍ بها،إذ أن الأساسَ هو التطلعُ لوجه الله سبحانه وتعالى وليْسَ على البال غيْرُه...

وقد قرأنا في كتب السِّــيَر والصِّحاح كيفَ أنَّ أبابكر الصِّــدِّيقَ كانَ-رضي الله عنه وأرضاه-يقومُ الليلَ،فيقرأ سِــرًّا،وكيفَ أنَّ عمرَ بن الخطاب كان-رضي الله عنه وأرضاه-يقومُ هو الآخــرُ في الليل،فيقرأ جهْــراً..فلما سُئِلَ الصِّـدِّيق،قالَ : (( أسْمَعْتُ مَنْ أناجـــي..!! ))،ولما سُئِـلَ الفاروقُ،قالَ : (( أوقِــظ ُ الوَسْنانَ،وأطردُ الشيْطانَ..!! ))...

إنَّ إخــلاصَ النية هنا وهناك يجعلُ السـِّــرَّ والعَــلـَــنَ سواءٌ عنده سبحانه وتعالى..وذلكَ ما ينبغي للمسلم الجاد أن يَعيَــه جيداً..

وقد لاحظنا-ونحن نقرأ في كتاب الله عزوجل-أن الله تعالى خـَلـَّــدَ صِنفيْن كريميْن من حَمَلةِ الرسالاتِ،الهُداةِ الأتقياء الأصفياء :

ــ أحدُهُما ؛ ذكَــرَ أسماءَهُ صراحَــة ً-إلى جانب سيرتهم العَطِرةِ وجهادِهِم المتفاني-فعرفها الناسُ وتناقلوها في ما بينهم...

ــ والصنف الآخــرُ ؛ طــوَى أسماءَهُ-عن عَمْدٍ-واكتفى فقط بنشر سيرته الزكية ومناقبه الخالدة...

مِــنْ أمثلةِ الصنفِ الأول ؛ أنبياءُ الله الكِرامُ الذين انطلقوا في أعماء الأرض،ينشرون هداياتِ السماء،ويَغرسون في النفوس معالم التوحيد،بتعبيد البشر لله تعالى،ويقارعون الوثنية أينما كانتْ..

تدبرْ قوله تعالى في الآية 47 من سورة ( ص ) : (( واذكُرْ عبادَنا إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ أولي الأيْدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصةِ ذِكرى الدار وإنهم عندنا لمِنَ المُصطفينَ الأخيار ))..

وفي سورة ( الأنعام ) قائمة ٌ لأسماء ثمانية عشر نبيًّا ورسولاً،أتى القرآنُ على كشف أسمائهم،فتراصفوا كالنجوم الطوالع...

أما من أمثلةِ الصنف الثاني ؛ أولئكَ الفريقُ من الهُداةِ الذين أسدلَ الله تعالى على أسماءِ أصحابه،فما عَرَفهم-إلى يوم الدين-إلا ربُّهُمْ فقط..!!

والحِكمة من ذلكَ واضحة لبصيرة المؤمن الواعية...

إنهم أشبَهُ بـ ( الجندي المجهول ) في عصرنا الحاضر..ذاكَ الذي يبذلُ الغالي والرخيص في الذوْد عن وطنه وثوابته،حتى إذا سقط في معمعةِ المعركة،توارى اسمُه بعيداً لحظة الاحتفالاتِ الصاخبة بالنصر الذي صنعه هو لا غيْر...!!

من الأمثلةِ القرآنية الشامخة لهذا الصنفِ ؛ مــؤمن آل فرعون..

هذا الرجل المؤمن النبيل الذي آمنَ برب هارون وموسى إيماناً راسخاً،ولأمر ما كان قريبَ التواجد مع فرعون وهامان وآلِهما..كان فيهم وليسَ منهم..وعندما أحسَّ بنيةِ الغدْر الفرعونية بموسى وبالتآمر على قتله،راحَ الرجلُ المؤمن يصطنع أسلوبَ المُحَايَدةِ الكَيَِّّسَةِ والمحاكمة العقلية الرشيدة،والنصح السديد،قصْدَ إحراج الفرعنةِ التي ركبتْ دماغَ رمسيس الثاني..!!

تأملي-أختي الكريمة-كيفَ خلـَّدَ القرآن الكريم دِفاعَ هذا ( المُحامي ) المؤمن في الآية 29 من سورة ( غافــر ) : (( وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعوْنَ يكتمُ إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءَكم بالبيناتِ من ربكم وإن يَكُ كاذباً فعليْه كذبه وإن يَكُ صادقاً يُصبْكم بعضُ الذي يَعِدُكم إن اللهَ لا يَهدي مَنْ هو مُسرفٌ كذاب يا قوْمُ لكم المُلك اليوم ظاهرين في الأرض فمَنْ ينصرُنا من بأس الله إن جاءنا ))...

والسؤالُ الذي قد يطفو إلى الأذهان ؛ مَــنْ هذا الرجُــلُ الصنديدُ،السمحُ النبيل،الذي يرددُ كلامَ الأنبياءِ وليْسَ منهم..؟؟ ما اسمُه الثلاثي..؟؟ ماذا كان منصبُه..؟؟ كَمْ كان عُمْرُهُ يا تـُرى..؟؟ ماهيَ صفاته ومواصفاته الجثمانية..؟؟...

والجواب ؛ لا نعرفه..ولا يعرفه أحدٌ..ولا نعرف عن مولده ومماته شيئاً..!!

إذنْ..فلـْيَكُنْ رمزاً للعمل المخلص،بعيداً عن بهرجة الأضواء والدعاية..ولـْيَكُنْ رمزاً للاستعلاء على الشهرة الدنيوية الفانية وإيثاراً للعاقبةِ الحُسنى عند الله هناك في دار البقاء...

وهذا رجلٌ آخرُ من الصنفِ نفسِــهِ :

رجلٌ وجدَ نفسَه في زمنٍ،احتدمَ فيه الصراع بين الحق الذي يحمله رُسُل الله وحُماةِ الانحراف الذين يستميتون في الدفاع عن كُفرهم وباطلهم...

فجاءَ الرجلُ المؤمنُ من بعيد..من أقصى المدينة يسعى-كما حكتْ سورة ( يــس )..وراحَ يَهيبُ بقوْمه أن يرْعَوُو ويعقلوا ويثوبوا إلى رُشدِهِم..وقال-كما في الآيتين 20 و 21 من السورة-(( يا قوْمُ اتبعوا المرسلين.اتبعو مَنْ لا يسألكمْ أجْراً وهم مُهتدون ))..ثم راحَ يُسائلهم في إشفاق ورجاء وثباتٍ : (( ومالي لا أعبُدُ الذي فطرني وإليه تـُرجَعون.أأتخذ من دونه آلهة إن يُردْن الرحمانُ بضـُرٍّ لا تـُغن عني شفاعتـُهم شيْئاً ولا يُنقِذون.إني إذاً لفي ضلال مبين.إني آمنتُ بربكم فاسمَعون ))..

وبقيَ الرجلُ الصلدُ إلى آخر رمَق،ينصحُ أهلَ بلده ليَرشدوا..بَيْدَ أنه ماتَ ورحلَ،تاركاً قوْمَه على كُفرهم وغوايتهم..فلما وجدَ النعيمَ المقيمَ في برزخه،تذكر-في نـُبْل وإخلاص-قومَه،فتمنى لهم الهُدى والتقــى : (( ياليْتَ قوْمي يعلمون بما غفرَ لي ربي وجعلني من المُكرمين ))...

والسؤال الذي قد يطفو إلى الأذهان ؛ مَــنْ هو هذا الرجلُ النبيلُ،المخلصُ،السمْحُ الكريمُ..؟؟ ما اسمه..؟؟ ما تفاصيلُ حياتِه..؟؟

والجوابُ ؛ لا نعرفه..!!

حسْبُه من هدفه أن ربَّــه يعرفه،لأنه لم يعملْ إلا له..وهذا يُغنيه عن الدعاية والشهرة البشريةِ كلها...

مثالٌ ثالثٌ من الصنفِ ذاتِــهِ :

الفتية ُ ( أهل الكهف )..أولئكَ الفِتـْيَانُ النجوم الطوالع الذين خلدتهم السورة التي نزلتْ باسم الغار الذي آواهم...

أحبوا ربَّهُم حبا عظيماً،فلما وجدوا ضِيقاً وصلـَفاً من مَلِكِهم الكافر،آثروا الفرارَ بدينهم للكهف،تاركين كل زهرةِ الحياةِ الدنيا وراءَ ظهورهم،فلبثوا في كهفهم-مع كلبهم الوفي-(( ...ثلاثمائةٍ سنينَ وازدادوا تسعاً ))...وكانوا معجزة ًكبرى...

والسؤال المُتوَقـَّع ؛ مَــنْ هؤلاء العظماء الأبطال..؟؟ ما أسماؤهم..؟؟ ما عددُهُم..؟؟ ما مواصفاتُ شخوصهم..؟؟؟

والجوابُ القاطع ؛ لا ندري شيئاً..!!

إن القرآن الكريم كشفَ عن معدنهم النفيس وعن جليل مواقفهم العظيمة،وذاكَ هو المهم لنا بَعْدَهم،أما ما عدا ذلكَ،فليَبقوا جنوداً مجهولينَ،لأنهم لم يبذلوا في سبيل شهرةٍ أو دعايةٍ إعلاميةٍ،وإنما انقلبوا لأخراهم،وهم مصحوبون-يا لسعادتهم-بنيةِ العمل والإخلاص لربهم الخالق العظيم....

ألاَ ليتنا نفقه فنَّ الإخلاص الحقيقي،في إسرارنا وإعلاننا كما فقِهَه العظماءُ ممنْ عاشوا قبلنا...

جَعَلنا الله تعالى وإياكمْ من زمرةِ المخلصين لله..لله وحده..على ذلك نحيا،وعليه نموتُ ونلقاه...
__________________
يَا رَبيعَ بَلـَـــــدِي الحبيب...
يا لوحة ًمزروعة ًفِي أقصَى الوريدِ جَمَـــالاً..!!


التعديل الأخير تم بواسطة يزيد فاضلي ; 01-09-2013 الساعة 11:46 PM
رد مع اقتباس