عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 24-04-2012, 04:20 AM
الصورة الرمزية الديمه
الديمه الديمه غير متواجد حالياً
شخصية مهمة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 874

اوسمتي

افتراضي أطفال الغياب ..للكاتب //صـالح العامــــري


أطفال الغياب


صالح العامري:-- طفلة لا تحتمل كلّ هذا التراب
لم تبلغ منارُ الثالثة من عمرها بعد، وكانت أجمل جميلات الحيّ والقرية والريف والبلد. عيناها لؤلؤتان تشعّان بالبراءة والطهر، وضفيرتاها منسجوتان من ولع الطفولة وألعابها، وأصابعها منحوتتان من سرّ الحنان والحلاوة والأطياف العذبة، وروحها شهيّة ونورانية كعصفورة أو حبّة خوخ .
وفجأة، نحو ذلك الجمال المنقطع النظير، نحو هيكل الطفولة وصرحها المؤثث بالريش الملون والندف العاري، تقدمت عربة مجنونة، وألقتها صريعة في الطريق. هكذا احتضن الموتُ منارَ بين ذراعيه وطار بها طائره الأسود في ملكوته المسرف في الخطف والفقد...
أمّا أبوها الثمل بالحزن، فما إن سُجّيت في الحفرة الرؤوم، حتّى طفحت لوعاته وازداد نحيبه، راجياً من حوله أن يحثو عليها التراب في رفق، وأن يهيلوا عليها التراب رويداً رويداً، لأنّها "طفلة. طفلة. طفلة لا تتحمّل كلّ هذا التراب"...

طفلة تقوم إليّ وتأخذني إلى شجرة تين
أجنّ من الفرح يا حبيبتي، رغم أنني أمشي، في الحلم والحقيقة، متوجاً بتاج شوك الفقد والغياب. أصعق من وهج المسرّات، وأنت تأتين إليّ في الليل البهيم، وتقودينني إلى الظهيرة ذات المكائد وطواحين الآلام. تأتيني يداك الحلوتين وتسحبينني كما يسحب الأطفال أصدقاءهم إلى اللعب، فأطاوعك، وأمشي معك، في المرج الأخضر الواسع، الذي تسكنه الأشباح والسحرة المروبصون مثل عجائز فقدت بعض أعضائها وسحقتها الأشكال والصور وتوزّعت على هيئة جذع باهت أو طير موسوس أو شخص محتمل وراء أغصان كثّة أو جنيّ منساب في فضة الماء... وهناك تحت شجرة التين الهائلة، تفتحين ثغرك الماكر، وتسألينني بصوتٍ يتحدث من أعالي الغيوم وأقاصي الأقداس: "هل تذكر هذه التينة؟". فأصمتُ، وأنشغلُ بالصمت، وأكبر فيه، وأتشكّل دوائر في بركته الشجيّة... وما إن أحاول أن أغمغم بإجابة ما، وأتلفت إليك، لا أجدك إلى جانبي، ولا أجد ثوبك الأحمر، ولا ثغرك الماكر.. فأبكي وألمس أوراق التينة، التي تشبه أصابع آمنة، وروائح آمنة، وأقبّل ثمرة تينة أراها حزينة، لكنها تشبه ثغر آمنة الماكر الذي بالكاد يودّ أن يتفتح وينطق بسؤال لم أجب عليه بعد...ثمّ أقترب أكثر، وعيناي مغمضتان، وأحضن جذع شجرة التين، بينما أمسّد أوراقها اللدنة، وأتحسس أغصانها وأظلّ أذرف الدمع، وأحضنها أكثر وأكثر، فأحسّ بشخص يربت على كتفي، ويلمس شعري، فلا أفتح عينيّ، ولا أستدير، ولا أعرف من يكون هذا الذي لمسني وربت على كتفي، هل هي آمنة، أم شجرة التين، أم أحد السحرة الذين يروبصون بين الأشجار...
الطفلة ذات الشعر الأشقر
أين ذهبت تلك الطفلة التي كانت تقود الزاهد، وتأخذ مقدّمة عصاه المقدودة من إحدى الأشجار. تطرق البيوت، ليدخلانها معاً، كي يلقي الأعمى موعظته القدوسيّة، ودعواته وتبريكاته الأبوية؟... بينما تقبع الصبيّة ساكنة إلى جواره، مثل أيقونة تحيطها هالة من نور... لا تبتسم، ولا تنبس ببنت شفة، بل تنحني في وسن عذب، في يقظة وسنانة، لا تكترث بما يدور حولها، كأنّها مخلوقة حلميّة، أو ملاك يسافر حضوره نحو حدودٍ لا تُرى، نحو أفق أشقر مثل شعرها، نحو غربة وحشية كوجهها الضارب في الجمال الدافيء...
كان شعر أمي أسود طويلاً، وشعور جاراتنا تتوزّع بين الأسود والأشمط، والقصير والطويل، والأجعد والمسترسل، والخشن والناعم...لكنّ تلك الصبية وحدها، من كان يملك ذلك اللون الفريد، اللون الخارق، اللون الذي أصابني بالذهول والحيرة، حتّى أنني سألت أميّ عن ما إذا كان شعرها مصبوغاً لأنّه لم يكن أسود شعرها، فردّت، "لا. هو خلقة الله"، ورغم أنني لا أتذكّر ماذا كان يسمّى ذلك اللون آنذاك، فمن المؤكد أنهم كانوا يطلقون عليه كلمة أخرى، غير اللون الأشقر...
صحت القرية، على مقتل الزاهد، على يد ابنه المجنون..أمّا الصبية الشقراء فقد اختفت تماماً من القرية، أين ذهبت يا ترى؟ هل حملها اللون الأشقر إلى ضفاف بعيدة؟...

طفلة وعجوز تفترقان عند النبع
بينما كانت تتمرأى في الماء، انقسمت المرأة إلى قسمين، وذهب كلّ جزء منها إلى جهة مختلفة. ذهب جزؤها الطفوليّ إلى الليل، لتقيم في ظلامه وتستر وجهها بين ركبتيها فيه، حيث الألعاب محجوزة عنها وحيث القهر والإذلال شاهدان على الماضي المؤلم. أما جزؤها العجوز، فقد رحل إلى السهل الأخضر، المحاذي لشاطيء البحر.. هناك تماماً كانت العجوز تركض وراء طائرتها الورقية، طفلة شقيّة في السابعة، تضحك ملء شدقيها بصدق حارّ، تلحس بوظتها، وتلعب مع النوارس، وتغني مع أندادها أغان عن السفر، عن البحر، عن الطيور، عن الفراشات، عن الزهور، عن الفصول، عن جمال العالم


نُشر في جريدة عمان
17/4


__________________
رُبـي هَب لي مَن لَدْنك فَرِحَاً . . !
. تشَعرَني بأن الحَيآه آجَمَل
رد مع اقتباس