موقع السلطنة الأدبي YOU COULD PUT BANNER/TEXT/HTML HERE, OR JUST REMOVE ME, I AM IN header.htm TEMPLATE

جديد المقالات
جديد البطاقات
جديد الأخبار
جديد الصوتيات


جديد الصور

جديد الجوال

جديد الفيديو

تغذيات RSS

الأخبار
كتابات متنوعة ( كتابات - نصوص )
يوسف في متاهته .. قراءة في ديوان »الخيل والرماد» لحصة البادي
يوسف في متاهته .. قراءة في ديوان »الخيل والرماد» لحصة البادي
12-26-2012 04:38 AM
يوسف في متاهته .. قراءة في ديوان »الخيل والرماد» لحصة البادي

غالب المطلبي -
( 1 )
تمثل مجموعة حصة البادي الشعرية الثانية “الخيل والرماد” خطوة واسعة في تطور تجربة هذه الشاعرة المجدّة، ومن المؤكد أن المسؤول الأول عن ذلك التطور الذي أشير إليه في هذه التجربة هو إمكانات الشاعرة نفسها وموهبتها وقدراتها اللغوية وثقافتها الأدبية وتمكنها من تقنيات الشعر، غير أنني أعتقد بدرجة مّا أن كتابة قصائد هذه المجموعة كلها بعيدا عن الأرض التي تنتمي إليها، وما اتصل بذلك من معاناة الغربة (في الوجه واليد واللسان)ـ كما يقول المتنبي ـ قد اختزل فيها ذلك الاحتراق البطيء الذي يقع للشاعر عادة وهو يصقل تجربته الشعرية، ويتدرج بها في مدارج الكتابة ؛ فدفع بموضوعها الشعري إلى أن يجد لنفسه مجرى أشد عمقا، وأن يدفع بموهبتها إلى أن تبذل جهداً راقيا من أجل أن تتحول تجربة “ الغربة “تلك إلى “قول جميل” يطمئن المقاصد الكبرى لهذا الفن الرفيع، وأن ينقلب بالقصيدة إلى أن تكون تمرينا نبيلا للقلب.

&quot 2 )
أول انطباع تتركه قراءة هذا الديوان الجميل هو: أن الشاعرة تصنع لنفسها لا لغيرها غناء صوفيا خاصا، غناءً مفعما بأسى نبيل، متواضع، صادق، عفوي؛ ليكون وحده "السلوى" لنا والعزاء لأرواحنا، وليكون"الدريئة" التي ندفع بها الغربة التي لا حدود لها؛ إذ تنهض في الليل الطويل
"تمطى الليل في قلب الغريب
وعزّت الحيل
وشفّ المنهك الحيران عن أغوار خافقه
وعن قنينة للبوح خبأها بأقصى القلبِ
عن أوجاع رحلته
تُراوح محمل الغيّاب ما تركوا بأرض الروح أوحملوا
ستكسرك استغاثة لحظة عبرت
تصعّد صوت ملقيها"
ويمكن تفسير هذه "الغنائية "العالية بأن قصائد هذا الديوان غير مشتملة على أي ضرب من "البوح" الخارجي؛ بمعنى أن الذات المتكلمة كانت تكتب ـ عن طريق هذه القصائد ـ رسائل توجهها إلى نفسها هي لا إلى أحد غيرها، وهي بذلك تعكس لنا عن قصد أو عن غير قصد تلك "الغربة" على نحو خفيّ، ولنا ـ إن استعملنا تعبيرات أصحاب "نظرية التوصيل"ـ أن نقول: إن المتلقي الحقيقي لهذه الأشعار هو المرسل نفسه وأن القصيدة ليس سوى (شفرة) مهمتها أن تحمل تلك الرسائل الخاصة التي يتبادلها المرء مع نفسه، وعلى العموم ينزع أصحاب هذه النظرية إلى أن المرسل ينقلب إلى صفة المتلقي في تلك اللحظات التي يتحول فيها الكلام إلى وظيفة التواصل مع النفس ومحاولة هدهدتها.. هدهدة الألم الذي ينبع من تخومها البعيدة.. لحظات من ذلك النوع الذي عبر عنه " بودلير" بكلماته التي لا تنسى:
"كن عاقلا يا ألمي واهدأ"
ولو حاولنا تأمل تقنيتين" اثنتين مما يتصل بهذا الشأن في قصائد البادي لوجدنا عمق هذا التوحد بين المرسل والمتلقي وقصديته، وأولى هاتين التقنيتين هي طريقتها في استعمال "الضمائر"؛ إذ سنلاحظ وجود تداخل شديد بين تلك الضمائر بحيث نجد أنها تتبادل الأدوار حتى في القصيدة الواحدة
الشاعرة تستعمل على نحو ظاهرالضمير "أنا" والضمير "أنتِ" بكسر التاء، وكذا ضمير المتكلمين "نحن"، وأحيانا تستعمل صيغة المبني للمجهول الذي هو من الناحية الدلالية لا النحوية متصل بضمير غامض وتستعمل أيضا ضمير المذكر الغائب، وهي كثيرا ما تتقلب بينها حتى في القصيدة الواحدة على نحو ما أسلفت ـ نلاحظ ذلك مثلا في توظيفها للضمائر في قصيدتها التي استمدت منها عنوان المجموعة "الخيل والرماد"، إذ لا يجعل التعدد الظاهر في الضمائر منها مفاتيح لأصوات متعددة أو مرسل إليهم متعددين، بل سنجد أنها في كل ذلك تستعير تلك الضمائر لتصنع منها بمهارة أقنعة متعددة لصوت واحد يدير الكلام بينه وبين نفسه، بل هي أحيانا تداخلها مع التقنية الثانية التي وددت أن أشير إليها هنا، وأعني بها تقنية "المرآة" بمهارة عالية؛ إذ تظهر المرآة في قصائدها على أنها" آلة " مواجهة الذات المتكلمة مع نفسها، تقول:
"ستربك صبرك المرآة لا تصغي لخطبتها
ستغسل وجهك المصبوغ بالأحلام
تكشف لونك المزرّق من فقد
فلا تهني
ستقسو كل مرآة عليك الآن".
كأن مهمة المرآة عندها في هذا الموضع أن تعكس صورة "أنت" لتكون "أنا"، بمعنى أن الذات المتكلمة تستعمل المرآة لتعكس صوتها لنفسها لا صورتها، ولتعطينا توكيدا خفياً بوحدة المرسل والمتلقي في قصائدها. من جانب آخر سيلاحظ القارئ في المواضع الثلاثة التي ورد فيها ذكر "المرآة " أنها مرتبطة عندها بالمواجهة الكلامية مع النفس؛ فهي مثلا تطلب في أحد المقاطع أن ترفع المرآة من أمامها كي تمنح نفسها صمتا مطلوبا، كأن وجود المرآة سيكون مدعاة لأن تكلم نفسها:
"خذوا مرآة زاوية الغريبة قد تمادى الحزن
أوفوا الصمت حصته"
وفي مقطع آخر تربط بين عدم وجود المرايا وعدم رغبتها في الكلام:
"يا ليلُ تنقصني المرايا
ثمَّ يُعجزني الكلامُ"
وهي إشارات واضحة إلى أن مقصد الشاعرة أن الكلام لا يقع بعيدا عن المرآة أي لا يقع بعيدا عن النفس .
هذا "التكور" الكلامي ـ إن صح التعبيرـ أو انعكاسه جزء من لعبة اتقنتها الشاعرة لإبراز ثيمة "الغربة" إذ إنها عندها تتضمن تلك الصرخة الخفية: ما من أحد يستمع إلينا غير أنفسنا بل "لا فضاء لصوتنا" خارج قلوبنا على نحو ما عبّرت عنه في قصيدتها "الحداد يليق بغيمة"، أو على النحو الذي أوردته أنا افتتاحا لهذه القراءة من قصيدتها "عزف منفرد" من أن صرخاتها ليست موجهة لكم أيها " الغافون".. صرخاتها ليست سوى تمرين لقلبها. الشاعرة إذن في كل قصائد المجموعة وتحت تأثير تلك الغربة تحاول أن تهدهد نفسها، ولقدرتها الشعرية العالية استطاعت أن تنقلب بتلك الهدهدة إلى أن تكون جزءاً من القصد الشعري نفسه ؛ بل صار بإمكاننا القول بأن الشاعرة دمجت الموضوع الشعري بتلك الغنائية الراقية التي وضعته فيها، فبدت قصيدتها محاولة لأن يغني المرء لنفسه، وأن يصل بذلك إلى أعماق روحه، وكأنها ومن أجل ذلك رأت أن عليها أن تختار للقصيدة لغة متعالية على نحو مّا على اللغة اليومية، لغة تظهر ألمها وتماسكها في الوقت نفسه، لغة مترفعة ذات نشيج صوفي متماسك؛ فيه عتب، وفيه كِبر، وفيه شجاعة يتعالى بها ذلك الغناء على نفسه ليصبج قطعة من القول الجميل
وإلى جانب ذلك يمكن القول ـ أيضا ـ إن التصاق الشاعرة بهذا السبك العالي للغة المفعمة برائحة فصاحة قديمة متجددة يشتمل في واحد من جوانبه على تحدٍ مّا لنفسها وهي تقضي يومها بلسان غير لسانها روحها
وبحةُ الضاد البعيدة تقتلُ المشتاقَ – لو تدرون –
تكشفُ كلَّ عُري حنينه وأنينه الليليِّ
فكأن ذلك السبك العالي لفصاحة لسانها كان آلية خفية أيضا تدفع بها تلك الغربة عن داخل روحها، من جانب آخر تنزع بي تلك الغنائية المتصاعدة، وما اختلط بها من رائحة صحراوية مترفعة في اللفظ والسبك إلى القول بأن شعرها استجلب لنفسه تلك السمة الصعبة المنال، سمة حب "الاستعادة" بمعنى أن قراءته المتكررة ما كانت تستهلكه؛ بل لعلها كانت تزيد في متعة تذوقه.

( 3 )
قصائد هذه المجموعة تعطي اهتماما واضحا للاستهلال؛ ذلك أن الشاعرة تدرك أهميته بوصفه مفتاحا "موسيقيا" للغناء الصحراوي، ويذهب بي الظن إلى أبعد من ذلك فأزعم أن كل استهلالاتها إنما هي "النوى" التي نسجت الشاعرة قصائدها منها عن طريق الترنم بها أوتكرارها بينها وبين نفسها، ولعل تلك الاستهلالات من أجل هذا تبدو إلى حد مّا مكتفية دلالياـ إن حاولنا إفرادها، وهو ما يمكن ملاحظته بدرجة عالية في كل استهلالات قصائدها التي أدرج قسما منها هنا:
"كل الشتاءات التي أحببتها مرت"
"أفول الشمس يعرفه أسى بالقلب لا ساعاتنا الكسلى"
" بطيء خطو هذا الليل يحمل فكرة وسنى."
"غربال هذا البعد دجال وأخضره يباب."
"ذهب الذين أحبهم بالروح شطر الغيب."
"نمشي بأرض الله لا ندري بأية قرية."
ولعل المتأمل في شعرها يجد أن " النواة " تتحول في كثير من الأحيان إلى نسج شعري متألف من مجموعة من الحركات ـ بالمصطلح الموسيقي ـ فيكون في ميسورنا بسبب من ذلك أن نخرج "حركة" مّا من داخل القصيدة نجد أن ثمة ما يسوغ لها أن تكون كينونة متكاملة مكتفية بنفسها . على نحو مانلاحظ مثلا في هذه "الحركة" من داخل قصيدة (الضباب والمدينة):
" يا لالتقاء الوجوه
ولازدحام الخطى بالخطى
والندى بالجمال
ويالانكسار المغيب بصبح
وصبح بعتمة ليل
يا لتسارع وقت بوقت
يغيب ويركض
لا وقت يكفي لشيء سيأتي
ولا شيء يملأ وقت الإياب"
ويمكن ملاحظة ذلك في مقاطع شتى تناثرت هنا وهناك في قصائد الديوان، غير أن المرء يجد أن هذه الحالة تتعمق في "عزف منفرد" فتبدو القصيدة معها كأنها مجموعة "سوناتات" صفّت معا في "نوتة" واحدة وبتنويعات إيقاعية مختلفة متتالية لتؤلف عزفا منفردا لصوت واحد، وهي القصيدة التي رأى فيها الدكتور إبراهيم السعافين ما يؤكد قدرة الشاعرة" اللافتة على كتابة قصيدة التوقيعة التي تمثل فيها كثافة اللغة وعمق المعنى وحرارة الفكرة وقوة التجربة وبراعة الإيقاع "على نحو مّا ورد في المقدمة الرائعة التي كتبها للديوان.
( 4 )

تبدو مهمة الشعر عند البادي قائمة على النظر إلى الداخل، وفي الحقيقة كل قصائد المجموعة ـ بدرجة كبيرة ـ كانت معنية بالداخل وهي عندما تجري "مباراتها" الشخصية بين مدينتها الصحراوية.. واحة قلبها وبين "لندن" نكتشف أن فوز صحرائها قائم على يسر دخولها إلى أعماق تلك الصحراء، والتماهي معها وهو أمر لا يقع لها مع مدينة لندن، تقول في قصيدة " على خط الوجد":
أنا الصحراءُ ..
تشبهُني الجبالُ بعزلةِ الصعلوكِ .. صمتِ مُولهٍ يبكي
رباباتِ الجوى المجنونِ والتعبِ
وأشبهُها ندىً وإباءْ
أنا الصحراءُ
لا ألقى رمادَ اللونِ
فانتبهوا لعمرِ رماليَ الصفراء مغزولا من الشمسِ
ومنسكبا شفيفَ الدمعِ بين الغافِ والشيحِ"
في حين نجد أن ذلك الأمر لا يقع لها مع مدينة لندن على الرغم من محبتها الواضحة لها وشعورها بأن تلك المدينة مكان آمن ومحب؛ كما تذكر في قصيدتها "الضباب والمدينة؛ إذ تخاطبها:
"إليكِ تعودُ خُطى التائهينْ
صراخُ المجانينَ، أصغرُ أحلامِنا
المشتهاة
ونفثُ الغريبِ
إذا ضاقت الأرضُ بالمتعبين".
لكن ما يستوقف الشاعرة، وما يعذب روحها أنها لا تستطيع الدخول روحيا إلى أعماق أناس لندن؛ إذ إن من دون تلك المدينة العظيمة وناسها ـ إن استعرنا قول السياب ـ قد قام سور وبوابة واحتوتها سكينة غير مرئية لا يمكن لهذه الغريبة أن تخترقها، وربما كانت رمزية الضباب جزءا من ذلك الشأن عندها لا إشارة للضباب المادي الذي يغلف لندن عادة تقول:
"حشدَ التعاطفِ
لا يربك الحزنُ سيرَ الحياةِ
ولا يُسأل الحزنُ أين مداه
بلندن يا لغلاظ القلوبِ.. المشاةِ القساة ْ
يبيعون للعابرين ابتساما
يعادُ بلا نكهةٍ للمحبةِ عبر الوجوهِ
بلونِ معاطفِ فصلِ الشتاءْ
تنكَّرّ فيها ابتهاجٌ جلي ٌّ،
أنيقٌ
تفشى كعدوى بوجه العبورِ
وأضمر في الخافقينِ اكتئابْ "
( 5 )
الثيمة الكبرى لكل قصائد المجموعة قائمة على التنازع بين "الصحراء" التي هي الأم الأولى للشاعرة، أو هي رمز طفولتها، أو خط الشروع لرحلتها الصوفية، وبين البحر الذي هو رمز الأسرار وموطن الأسئلة الكبرى:
" سرب ُ النوارسِ واقتناصُ حقيقةِ الأشياء غرّرَ بي..
وغرّر بي فضولي لاكتناه البحرِ..
لونُ البحر أغراني بقربِ النبع من عطشي الذي ربّيته
وهما بأني قد أصيرُ إلى رواء "

إن محنة هذه المتصوفة على نحو مّا هي محنة كل صوفي حقيقي تتجسد في (الطريق) بمفهومه الصوفي بالطبع، في قصائد حصة البادي سنلاحظ (توقيعا) في كل قصيدة لذلك "الطريق" الذي يبدو في خاطرها أقرب إلى التيه ـ الذي هو جوهري في المعاناة الصوفية، ابتداء من التعبير عن هذا" الطريق/ التيه" في أولى قصائد المجموعة بـ(حياد الأمكنة) حيث لا جهات، تقول في مقطع من قصيدة (من مأمن يؤتى الغريب):
"كلُّ النبوءات البعيدة أَسرجت فرسَ اليقين
وسافرت ببشارةٍ لم تدرِ وِجْهَتَها
فغابت بين حيرتِها وبيني
واستقرت في حياد الأمكنةْ "
إلى التوقيعات الأخرى المتناثرة في قصائد المجموعة من قبيل :
" درب المتعبين متاهة عمياء."
"وغابت دون أن تلقى مكان."
"سيبكينا ارتباك الدرب".
"وهي المسافة ضللت حبر الأحبة لا مداد ولا ورق"
" نمشي بأرض الله لا ندري باية قرية."
إن العناية بهذه التوقيع متأتية في تقديري من وصف الشاعرة نفسها وهي تقوم برحلتها تلك من الصحراء إلى البحر بـ(المشّاء) بالمعنى الصوفي الراقي، وهوفي حقيقة الأمر التوقيع الثاني الذي نكتشف أن الشاعرة تنثره في زوايا قصائدها هنا وهناك؛ بل هي أحيانا تقرر أن (المشي) بحد ذاته جزء مركزي من ذلك الوجود الإنساني؛ إذ إنه يدفع بالمشاء إلى أن "ينسى حزنه بالسير"، ونلاحظ أنها تهتم كثيرا بأن تمنح ذلك المشّاء وهو في سيره كل زاده الصوفي.. كل ضوئه الداخلي:

"للمشاء ضوء سوف يتبعه ويكسر قلب بوصلة التعقل
قد يستحث خطاه، يستجلي الفراشة حيث تتبع قلبها
قد يحتمي بالصمت"
وهذا الضوء الذي تتحدث عنه ينبع من داخله وحده، تقول:
" يا ضوء مهلك هلا تراجعت
وحدي أضيء
وحدي أبصرت بالقلب وجه السماوات
ماحاجة الدرب للضوء".
وهدفه ـ أي ذلك المشّاءـ كما تفصح عن ذلك في غير موضع ـ بأنه يريد أن يكون نورسا يجوب البحر، وفي هذا إحالة غير مباشرة لفريد الدين العطار في (منطق الطير) في الرمزية الصوفية الآسرة للطير.
وهو المشاء نفسه الذي سيخبرنا في آخر مقطعات "عزف منفرد" أعني تلك المعنونة بـ "سدرة يوسف" من أنه سيعود يوما ما،و لشاعرة في هذه المقطّعة تختار "تناصا" رائعا مع رحلة (يوسف) القديمة، رحلته الشخصية في متاهته، فترينا إياه من الداخل لا من الخارج، يوسف من داخل حلمه الأبدي، حلمه في انتهاء الغربة والعودة إلى الأمان الأول، تقول على لسان يوسف الحالم بالعودة:
"سأعود لا تتناقصوا إن أخرتنا الريح عن هدي المقيلِ
ولا تميلوا أو تملوا عودة المسكون باللقيا وإن قست القلوب
سأعود .. ذروا حنطتي في الدرب
وامتثلوا لصوت الروح تغزلُ شوقَها للوعد فارقناه
كلٌّ في غيابْ
سأعود إني باخع كبدي على آثار سدرتنا التي شاخت بقلب بعيدكمْ
هلا ضممتم سرها وأتيتمُ بالشيحِ طقسا للإيابْ
سأعود ذاك قميصيَ المخبوءُ ألقوا ريحَ وجدي للبلادِ على البلادِ لتستعيد رشادَها
وتجمعوا زمرا لأملأ خافقي منكم
وأملأكم حنينا هادرا
وتجمعوا زمرا لأملأكم عتابُ "..
وهي في هذا التناص تكتشف الطاقة الصوفية الهائلة في رحلة يوسف،وتتماهى معه، وأعتقد أن عملها هذا هو أول عمل يتصل بصوفية الرجل العظيم، ولعل ذلك كان أيضا علة أن تكون قصيدتها الأولى في المجموعة (من مأمن يؤتى الغريب) إشارة إلى بداية الرحلة، والعلة أيضا في أن تكون (سدرة يوسف)ـ الأقرب إلى السوناتة ـ نهاية رمزية لها.
وهذه "السوناتة"ـ إن لاحظناـ مفعمة باستعمال فعل الاستقبال (سأفعل)، وهو ما يشير في العمليات الأدبية عادة إلى أحلام اليقظة، أو الأحلام التي نريد لها أن تقع لنا ذات يوم، فكأننّا ما زلنا في تلك الغربة بانتظار أن يأتي ذلك اليوم العجيب.

( 6 )
ديوان حصة البادي هذا يستحق منا تأملا ودودا، ويستحق مناـ قبل ذلك أن نصيخ السمع معها إلى صرخة القلب المهجورة ـ من قبلنا ـ فيه وأن ندفع بذلك اعتذار الشاعرة الرقيق بأن الأمر لم يكن بالنسبة إليها سوى تمرين نبيل للقلب، هذا الديوان في ظنّي نبع ماء عذب في أرض القصيدة العمانية الحديثة الطيبة ؛ فلنتوقف عنده ونقترب.



تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 5203


خدمات المحتوى


تقييم
1.01/10 (361 صوت)

Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.